كنا خارج التاريخ.. مقطوعي الصلة بالزمن.. جري تخيف منابع التفكير السياسي الخالص في مصر, لتدور حركة العملية السياسية حول شيء يخص عقل الحاكم, وقد انشغل هو به. وانفصلت الدولة عن عالم من حولها يفكر ويقرر ويتصرف بطرق تراها الدولة هنا عن بعد, لكنها لا تلقي لها بالا. أن أقرب تعريف للسياسة, هو أن الصفة المميزة لها هي العلاقة بين الحاكم والمحكوم, والهدف النهائي لها هو تحقيق إنسانية الاثنين, وليس جور إنسانية أحدهما علي حساب الآخر, ووجوده وقدرته ودوره, وإذا لم يتحقق ذلك, فإن ماهو موجود ليس بسياسة, ولا ما تجري في إطاره هو دولة, بل حالة أخري مستثناة مما يجري في دول تضمن لها ممارسات الحكم عافيتها السياسية, وصلاح مجتمعها, وتقدمها وأمانها, ولهذا كانت الممارسات في مصر في الثلاثين سنة الأخيرة خاصة تتم خارج حركة الزمن, فالعالم يخطو إلي الأمام, ونحن ندور حول أنفسنا, لانبرح مكاننا, والنظام جاذب بقوة لطوابير النفاق, طارد لأكفأ وأخلص أبناء البلد, وكان ما نراه اليوم من انقلاب المنافقين علي مواقفهم المعروفة, لأن النفاق عندهم صار عقيدة وسلوكا وممارسة ميكانيكية. كان العالم يتغير بايقاع سرعة عصر ثورة المعلومات, الذي اختصر الزمن والمسافات, بينما خطاب الحكم والحزب يحدثنا عن حكمة التدرج وعدم التسرع. حتي ان العقل السياسي للنظام الحاكم وقياداته الحزبية, قد أصابه الصدأ, وعجز عن فهم خصائص القومية للمصريين, حيث تصور أن التضييق علي الأحزاب, وقطع تواصلها مع الناس, والحجر علي أي نشاط سياسي, سوف يحكم قبضته علي وعي الشعب, ولو أنهم قرأوا التاريخ بوعي وبصيرة, لعرفوا ان في تاريخ المصريين شيئا إسمه روح الجماعة, وهي التي تتجسد في لحظة ما, في صورة تحرك مجتمعي هادر, بدون قائد فرد يحرك الأحداث. ويصنع التحولات التاريخية الكبري. روح الجماعة التي تقود بلا قائد مركزي هي التي صنعت ثورة91, في تحرك غريزي في جميع أرجاء مصر, وفي وقت واحد, وهي التي أطلقت طاقة الشعور الوطني في مدن وقري مصر عام5391, للمطالبة بإلغاء دستور0391, وإعادة دستور.3291 وفرضت إرادتها علي الدولة. وفي الحالتين9191 و5391, كانت هناك قيادة جماعية تنشأ ذاتيا من قلب كل تحرك لا مركزي, تنظم وتنسق. وهو نفس ما حدث في ثورة الشباب في52 يناير1102, حيث كانت هناك مجموعة تنظم وتنسق, وهو ما فعلته في مرحلة الاعداد للانتفاضة التي تحولت إلي ثورة, عندما جذبت إليها المصريين بمختلف فئاتهم وطبقاتهم. وكان سقوط النظام مدويا, لأن خطابه الذي يتحدث به إلي الناس, قد انفصل تماما عن خطاب الشارع, وراح يمشي وحده, وان تصور وهما أن هناك شعبا يسير وراءه, وهو لم يكن صحيحا. والآن وبعد أن استردت مصر وعيها, بثورة52 يناير, والتي حلقت بالأماني الوطنية إلي آفاق عالية, وبعد أن خرجت الجماهير في جميع أرجاء مصر تصنع ثورة جماهيرية, محددة المطالب والأهداف, فإن الصعود بمصر إلي مكانة تليق بها ضمن ما أصبح يسمي الدول الصاعدة, صار مهمة أولي وأساسية, في إطار عملية الاصلاح السياسي والدستوري. لقد استقر العالم خلال العشرين سنة الأخيرة علي أن الأمن القومي الاقتصادي, يتساوي الآن في الأهمية مع بقية المكونات التقليدية للأمن القومي للدولة, وان القدرة الاقتصادية التنافسية قد صعدت إلي قمة مكونات الأمن القومي, وتأكد ذلك من اكتساب الدول الصاعدة اقتصاديا في آسيا, وأمريكا اللاتينية مكانة اقليمية دولية, نتيجة نجاح خططها للتنمية الاقتصادية, وبمواصفات القرن الحادي والعشرين, وهوما تحتاجه مصر الآن. لكن كيف يتم ذلك؟ .. البداية تنطلق من صياغة رؤية استراتيجية محددة الملامح, تبلور هوية الدولة, وتحدد الهدف الذي تريد بلوغه, وتضع آليات تضمن تحرك جميع قوي الدولة, في تناسق محسوب, وحصر ما لدي الدولة من موارد ماهو مستغل منها, وما هو معطل, وتضع مقاييس اختيار العناصرالبشرية التي تقود التنفيذ, واستيعاب ذلك كله في إطار خطة قائمة علي دراسات متعمقة ومفصلة. ولابد أن يدعم هذه الخطوة الاستفادة من تجارب دول حققت النجاح, الذي نقلها في سنوات قليلة من دول متواضعة, إلي مصاف الدول التي تتنافس مع أكثر الدول تقدما في العالم. لقد عقد الكثير من المؤتمرات والندوات, وصدرت عشرات الكتب في السنوات القليلة الماضية في أمريكا, وأوروبا, وآسيا, تشرح وتحلل تفاصيل التجارب الناجحة, والتي أنجزت التقدم الاقتصادي. ليس فقط بمعدلات عالية للتنمية, بل بحرص بالغ علي عدالة توزيع عائد التنمية, بما يزيح عن الطبقات الفقيرة شظف العيش. وبالطبع توجد في مصر شخصيات عكفت خلال السنوات الماضية علي هذه القضية, ولديها دراسات جاهزة, لكيفية خلق كيانات اقتصادية مزدهرة صناعيا وزراعيا, يمكن الاستفادة منها فورا. ان أي بناء لابد له من أساس يقام فوقه, ولذلك يكون من الضروري انشاء مجلس أو تجمع من كبار المفكرين والخبراء والعلماء المختصين بشئون: الأمن القومي والاستراتيجية وعلماء الاقتصاد والاجتماع والأدب وعلم النفس السياسي. ورجال أعمال, يلتقون في إطار منظومة مشروع قومي لنهضة مصر. ويتوزعون علي مجموعات عمل تتناول كل منها موضوعا محددا, منها التعليم, والصحة, والأبحاث العلمية, والعلاقات الدولية, والدور الاقليمي, وسلامة العملية السياسية وفق المعايير الديمقراطية وكفاءة الحكومة, ودور القوة الناعمة من مسرح, وسينما, وموسيقي, وفنون, ونشر الكتاب.. وان يؤخذ في الاعتبار أن نهضة الدولة, حتي ولو تصدرت التنمية الاقتصادية الأولويات, إلا أن ذلك لابد أن يتماشي مع المفاهيم المتغيرة للأمن القومي, والأمن العالمي, وأن الثقافة بجميع مكوناتها, تقف في هذا العصر, علي الخط الأمامي لدفاعات الدولة. المزيد من مقالات عاطف الغمري