عندما تدور الحوارات بين البعض منا والبعض من الأوروبيين حول بدايات نشأة الدولة الحديثة في أوروبا ثم ظروف هذه النشأة, فإنهم عادة يشيرون إلي تاريخ هام لقارتهم.عادة مايتحدثون عن عام8461 ثم يشيرون إلي اتفاقية وقعت فيه, وهي اتفاقية وستيفاليا. وربما يكون هذا التاريخ وتلك الاتفاقية يدرسها البعض من المصريين الأن ضمن مناهج العلوم السياسية. كما من المؤكد أنها مرت بعدد من هؤلاء المصريين الذين تعلموا في مدرسة طه حسين القديمة ولا يزالون علي قيد الحياة. كان المنهاج الدراسي للتاريخ في هذه المدرسة يتضمن كتابا مستقلا عن تاريخ أوربا في القرن التاسع عشر. وكان هذا الكتاب يعود في مقدمته إلي تاريخ هذه الأتفاقية. ذلك ليس لمجرد أهمية القارة الأوروبية وإنما لكي نعرف كتلاميذ كيف تشكلت بلدان هذه القارة التي قادت حركة نمو الرأسمالية ثم حملات استعمار البلدان الأقل نمو منها والتي كانت تخدم علي مصالحها الاقتصادية. وكنت ضمن هؤلاء الذين تعلموا في هذه المدرسة العريقة. وشاءت الظروف أن أزور المدينة والمبني ثم القاعة التي شهدت توقيع هذه الاتفاقية في42 أكتوبر عام.8461 كنت ضمن وفد نظمه منتدي حوار الثقافات التابع للهيئة القبطية الأنجيلية للخدمات والاجتماعية لادارة الحوارات وتبادل الخبرات الوطنية للبلدين, مصر وألمانيا, مع معهد ثقافي تابع للكنيسة البروتستانتية الألمانية. اسم المدينة هو أوسنبروك. والمبني أصبح الآن مقرا لبلدية المدينة. أما القاعة فتعود بجوها العام إلي تلك الفترة التاريخية للبلدان الأوروبية وتحمل علي جدرانها الأربع صورا زيتيه متراصة للأمراء والأميرات والملوك والملكات الكثيرين الذين وقعوا علي هذه الاتفاقية ليضعوا النهاية لحرب الأعوام الثلاثين والتي تعرف كما درسناها بالحرب الدينية الأوروبية والتي دارت بين الكاثوليك من جانب وبين أتباع حركة الإصلاح الديني من البروتستانت من الجانب الآخر. وهي حركة الإصلاح التي بدأها مارتن لوثر وتبناها من بعدها القس الفرنسي جون كالفن9051/.4651 يقولون في كتب التاريخ أن هذه المجموعة من الحكام متنوعي الجنسيات جاءوا سويا لتوقيع هذه الاتفاقية بعد أن تيقنوا من حالة الدمار الكامل التي ستوصلهم إليها هذه الحرب المستمرة وذلك التناحر بين الطائفتين المسيحيتين. مات في هذه الحرب الدينية ربع سكان أوروبا ودمرت زراعاتها وتجارتها وكنائسها والكثير من تراثها المعماري التاريخي. وباتت القارة ببلدانها علي وشك الانتحار الجماعي. نعم كان انتحارا جماعيا يموت فيه الرجال والنساء والأطفال. واستنتج المحللون من دراستهم أن أسوأ أنواع الحروب وأبشعها هي الحروب الدينية لأنها لاتدور بين جيش وآخر وإنما تمتد إلي البشر العادي أي إلي عمق المجتمع. في مثل هذه الحروب يتقاتل البشر بدافع من تعصبهم لعقائدهم الدينية وبسبب رفض العقائد الأخري بغض النظر عن المصالح الخاصة للمواطنين أو العامة للوطن ذاته. وعرف المحللون أن أهم نتائج هذه الاتفاقية هي الاعتراف الكامل أن قيمة المواطنة لابد أن تكون الأساس في التعامل بين البشر بعضهم وبعض. وكذلك في تعاملات الدول مع كل مواطنيها بغض النظر عن كونهم كوثوليك أو بروتستانت, وكذلك كان من نتائجها أن تم الفصل بين الدولة راعية مصالح كل المواطنين وبين المؤسسات الدينية, راعية عقائد البعض من هؤلاء المواطنين. ثم ضمنت هذه الدول حرية اعتناق العقائد والعبادة. وهنا بدأ دخول هذه البلدان الأوروبية إلي بدايات مراحل تطور كل منها إلي أن تكون دولة القانون ودولة المؤسسات ودولة الديمقراطية. لم يحدث ذلك صبيحة يوم توقيع الاتفاقية. وأنما وضع يوم42 أكتوبر عام8461 البلدان الأوروبية علي أعتاب تطورها إلي دول مدنية حديثة. ومن هنا يمكن فهم السبب وراء موافقة الدولة الألمانية, علي سبيل المثال, علي بناء0052 مسجد في ألمانيا لتكون أماكن التعبد ل8.3 مليون مسلم مهاجر دائم, ولكنها في الوقت نفسه تتصدي بكل قوة للتطرف وللتعصب. لأن الدولة الألمانية تحترم العقائد وممارستها ولكنها في الوقت ذاته تجد نفسها علي غير استعداد لأقحام الدين في السياسة. هذه هي تقاليدهم الراسخة التي دفعوا لتحقيقها ثمنا باهظا من البشر ومن قواهم وقدراتهم المادية. لماذا أسترجع هذا التاريخ الأوروبي البعيد؟ أسترجعه لأني أشعر بالخطر المحيط بنا وأكاد أتعرف علي بعض ملامح الحرب الدينية الأوروبية ولكن علي الطريقة العربية التي تعيش حالاتها الداخلية المعقدة الملتحمة بواقع عالمي جديد تعدي مرحلة تكوين واستقرار الدولة الديمقراطية الحديثة. أسترجعه لأنه لم يعد يتكرر في إطار المعادلة البسيطة التي دار فيها في القرن السابع عشر في أوربا. في هذا الزمان البعيد دارت الحرب في إطار معادلة كان طرفاها كاثوليك في مواجهة بروتستانت في مجتمع إقطاعي يجري فيه الصراع بين إقطاعيين وأقنان. كانت معادلة بسيطة وليس لها سوابق تاريخية في منطقة جغرافية أخري. وإنما الآن تجري أحداث اليوم في منطقتنا التي تموج بكل التناقضات والصراعات التي تسعي إلي الحل. بها حركة تحرر وطني وبها إثنيات عديدة مغلوبة علي أمرها وبها صراع وتناقض اجتماعي بين من يملكون كل شيء ومن لايملكون شيئا. بين علاقات زراعية تقليدية وأخري تسعي للتحديث, بين أنماط وتقاليد القيم الذكورية الأبوية المستبدة وبين تلك الأخري الديمقراطية المستندة علي حكم القانون والمؤسسات. كما تدور كذلك بين المختلفين عقائديا سواء علي مستوي الدين الواحد أو الدينين الإسلام والمسيحية. تتشابك أطراف الصراعات ولكن يمكن رصد ملامحه الدينية الواضحة. إذا أردنا التدليل علي ما أقول أوجه الأنظار إلي العراق. هناك نجد شيعة مسلمين في مواجهة مع سنة مسلمين. نجد أكرادا عراقيين في مواجهة مع عرب عراقيين. يحومون كلهم ويلتفون جميعا حول وضع كركوك البترولية. نجد عراقيين مسيحيين يغادرون البلاد هلعا وخوفا من المتابعة والقتل لمجرد كونهم مسيحيين بالرغم من أنهم ضمن أصحاب البلاد الذين عاشوا فيها وعمروها, مع غيرهم من العراقيين, لقرون زمنية ممتدة. في العراق, نجد كل أنواع الصراعات متجمعة ومتشابكة بحيث يصعب علي المواطن العادي التفرقة بين ماهو ديني وماهو اثني أو طبقي أو حتي وطني عام. الواضح الذي لايمكن إنكاره أن مئات الآلاف من العراقيين راحوا ضحية هذا الصراع الأعمي وأن مئات الآلاف تركت العراق إلي الخارج والأن تتركه الآلاف الأخري من العراقيين المسيحيين. المهم هو هو أني أسترجع التاريخ الأوروبي لأنه جزء من تاريخ الأنسانية الذي لابد أن نعيه جيدا ونتعلم دروسه. وأهم هذه الدروس هو ألا نترك التعصب الديني تحديدا, سواء كان داخليا أو خارجيا, يستدرج شعبنا إلي أي شكل من أشكال الصراع الداخلي والسلاح الوحيد لحماية البلاد هو مواجهة كل المشاكل المتراكمة بكل شفافية وشجاعة. والمشاكل والاحتقانات كثيرة. المزيد من مقالات أمينة شفيق