لقد انتهت مقولة المركز والأطراف, فلم تعد مصر هي المركز, وما حولها أطرافا, وانتهت محاولات نقل المركز الي هذه العاصمة العربية أو تلك, خصوصا بغداد صدام حسين, فلم تعد مقولة المركز والأطراف صالحة في هذا الزمان, خصوصا بعد المتغيرات العالمية والاقليمية والمحلية التي شهدتها الثقافة العربية, في مصر نفسها, وعلي امتداد العالم العربي, بل امتداد العالم كله الذي أصبح قرية كونية متجاوبة الأطراف, متواصلة الأجزاء, خصوصا بعد الثورة الجذرية التي حدثت في تكنولوجيا الاتصالات, ولذلك كله انتقل الوضع الثقافي العربي من صيغة العاصمة المركز والعواصم الأطراف الي صيغة العواصم المتكافئة, المتعاونة, أو المتنافسة, ولذلك لايجب ان ننظر الي مكانة مصر الثقافية, في علاقتها بالعواصم العربية, كما كان ينظر اليها طه حسين في الثلاثينيات حين أصدر كتابه في الثقافة المصرية سنة1938, ولا كما كان ينظر الي هذه العلاقة عبد الناصر في الخمسينيات ومطالع الستينيات, حين كتب عن مركز مصر الذي يتوسط دوائر ثلاثة, المصرية والعربية والافريقية, وأضاف الآسيوية خلال استمرار الممارسة التي أدت إلي إنشاء منظمة التضامن الافريقي الآسيوي, في أوج حركة التحرر الوطني, وصعود دول عدم الانحياز, والخلاص من الاستعمار القديم لمواجهة الاستعمار الجديد, والخروج من عنق زجاجة الحرب الباردة والصراع بين الكتلتين العظميين, لقد انتهي ذلك كله وأصبحنا نعيش في عالم أحادي القطب, صعدت فيه العولمة الي ذروتها, وأسس السادات للتحول من الاشتراكية( المدعاة) الي الرأسمالية المشتهاة, وانكمشت دعوة القومية العربية التي غرس صدام حسين خنجره فيما بقي من جسدها العليل بغزوة الكويت, وما ترتب علي ذلك من تصاعد النفوذ الأمريكي, سياسيا واقتصاديا, فضلا عن ما لازمه من ردود فعل الاصولية التي أخذت شكلا دينيا لا قوميا, وتغيرت معدلات الثروة العربية بما أكد ضرورة تغيير صيغة المركز والأطراف التابعة الي صيغة العواصم المتكافئة, المتعاونة ولا يعني ذلك إلغاء الدور التاريخي الرائد لمصر, فهو دور لا يمكن التقليل من شأنه في نهضة الأقطار العربية علي مستويات كثيرة, فضلا عن أن هذا الدور هو أصل العمق الحضاري الذي لايزال يجعل الابداع الثقافي المصري متميزا من حيث الكم والكيف علي السواء, وهو الذي جعل مصر أسبق الأقطار العربية في الحصول علي منصب الأمين العام للأمم المتحدة, ومدير وكالة الطاقة الذرية, فضلا عن السبق في الحصول علي جائزتي نوبل لمحفوظ وزويل, هذا العمق الحضاري له قوة دفع ذاتية لا تعوقها الأزمات الاقتصادية والسياسية, بل إن تواصله عبر الأجيال يجعل منه في أزمنة النكسات قوة دفع خلاقة تبث الطاقة في الابداع المصري لتجعل منه ابداعا مقاوما من ناحية, وإبداعا منافسا بقوة في علاقته بغيره من الإبداعات العربية. لكن لابد من الاحتراس في هذا المجال, فهناك أقطار عربية أخري تنافسنا في العمق التاريخي الحضاري( سوريا, العراق, لبنان) حتي وإن تميزت مصر عنها بعبقرية المكان, أضف الي ذلك ان تطور الاقطار العربية النفطية قلب المعادلة, وخلق نوعا من التوازنات والمتغيرات الجديدة. ولا ينفصل عن ذلك اختفاء الفجوة التقليدية بين أقطار المشرق والمغرب لأسباب عديدة, منها الثورة الجذرية في تكنولوجيا الاتصالات, ولذلك لم يعد هناك مجال للمقولة التي شاعت في الخمسينيات من أن مصر تكتب وبيروت تطبع والعراق تقرأ, فقد تحولت علاقة الابداع الثقافي بين الأقطار العربية الي ما يشبه العلاقة بين كيانات متوازية, بعضها أكثر من بعض حجما ووزنا( كما وكيفا), ولكنها أشبه بالأواني المستطرقة, ومن ثم لم نعد نتحدث عن انفراد قطر عربي دون غيره بتعليم عال أو ابداع ثقافي, فالتعليم الجامعي أصبح موجودا في كل مكان, شأنه شأن الإبداع الثقافي سواء بسواء, وأوضح ما يكون ذلك في الأدب, فلم تعد قصيدة النثر مثلا مقصورة علي قطر دون قطر, وإنما أصبحت موجودة في كل الأقطار بلا استثناء, بعد ممانعات هنا أو هناك, وكان إبداع الرواية مقصورا في بدايته علي مصر ولبنان وسوريا, لكنه غزا كل الأقطار العربية علي السواء, حتي الأقطار التي تأخر فيها هذا الفن نسبيا, سرعان ما أسهمت وأنتجت إبداعا مكافئا لغيره من الإبداع الموجود في كل مكان, ولذلك نتحدث اليوم عن الرواية السعودية والإماراتية في موازاة الرواية المصرية والسورية واللبنانية والجزائرية والتونسية والمغربية.. الخ., ويمكن القول ان التميز الكمي لمصر بحكم التاريخ والجغرافيا, ولكن ذلك لا يمنع من وجود روايات غير مصرية تنافس الرواية المصرية كيفيا, وتتفوق عليها أحيانا. ومعني ذلك انه حتي علاقات الابداع الثقافي تغيرت, وتحولت من علاقة تراتب الي علاقة تواز, مؤكد ان هناك نقاط قوة لاتزال في صالح مصر: الثروة الهائلة في الآثار, العدد الأكبر من المتاحف المختلفة, شبكة المكتبات التي تبدأ بدار الكتب ولا تنتهي بمكتبة الاسكندرية, عدد الأفلام السينمائية المتميزة كميا, وكيفيا في حالات قليلة, لكن الدالة علي صناعة سينما كبيرة ومعها مدفعية ثقيلة في صناعة الكتاب وانتاجه, الحجم الدال في مواقع النت والبلوجرز والفيس بوك. المهرجانات المسرحية والثقافية, وقس علي ذلك غيره, لكن ذلك كله لم يعد يؤكد صلاحية منظومة المركز والأطراف, فإعادة توزيع الثروة في العالم العربي, وثروة النفط المتكاثر, أسهم في تغيير المعادلة, ونقلنا من صيغة العاصمة الوحيدة المركزية والعواصم التابعة الي صيغة العواصم المتكافئة, وهو أمر يكشف عن وهم بعض المثقفين المصريين الذين لايزالون متمسكين بالصيغة القديمة رغم متغيرات التاريخ والجغرافيا, والأهم الثروة التي أسهمت في تغيير علاقات الانتاج الثقافي وأدواته, واعتقد انه ان الأوان لهؤلاء لأن يستوعبوا متغيرات التاريخ والثروة وإلا أصبحوا خارج التاريخ, فيصبحون اشبه بالانجليز الذين ظلوا متشبثين بماضي الامبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس, مع ان هذه الامبراطورية تقلصت وانحسرت في حدودها الجغرافية الضيقة نتيجة متغيرات التاريخ والجغرافيا, واعتقد ان الوعي بهذه المتغيرات, علي مستوي الثقافة العربية, سيؤسس لعلاقات ثقافية مصرية عربية أكثر واقعية وفاعلية علي السواء في كل المجالات. بعبارات أخري, علينا نسيان منطق الشقيقة الكبري التي لابد ان تطيعها وتتبعها الشقيقات الصغري, واستبدال منطق جديد بهذا المنطق الذي عفي عليه الزمن, فالشقيقات الصغيرات أصبحن كبيرات, ولم تعد العلاقة بينهن والشقيقة الكبري علاقة مطريركية أو بطريركية, بل علاقة تكافؤ, تزداد غني بالحوار وتقبل الاختلاف, واستبدال الديمقراطية بالبطريركية, والتنوع بنقيضه والتسامح بالتعصب من هذا الطرف أو ذاك. وأهم من ذلك البحث عن سبل ووسائل مشتركة لتحقيق المصلحة للجميع.