فضيحة التجسس الإسرائيلي الأخيرة علي مصر جديرة بأن يستخلص منها ما ينبغي من الدروس والعبر قد تبدو قصص التجسس بين الدول في حال العداء أمرا معروفا كضرب من ضروب الخداع ومباريات الذكاء في معرفة ما يفكر فيه العدو. لكن وجه الاستنكار الأكبر في التجسس الإسرائيلي المستمر علي مصر أن هناك اتفاقية سلام لم تكن إسرائيل لتحلم يوما باتفاقية مثلها مع دولة كمصر. ثم إن الناس لا تنسي أبدا أن الصراع مع إسرائيل لم يكن لسبب طاريء أو لنزاع مؤقت علي حدود أو مصالح لكنه يتعلق بمشروع توسعي لا يؤمن إلا بالحديد والنار بدءا من اغتصاب وطن والسعي لاقتلاع شعب من جذوره, ولا يبدو أنه يريد أن يتوقف عند هذا الحد فقط! وحين تتأمل القضية التي أماطت النيابة العامة اللثام عنها مؤخرا فإن هناك دروسا لايمكن تجاهلها ينبغي أن تظل حاضرة في الأذهان لنستخلص منها بعض العظات والعبر. الدرس الأول أن خطورة إسرائيل ونواياها المريبة تبدو في حالة السلام بقدر ما هي في حالة الحرب. فقصص ومحاولات التجسس الإسرائيلي علي مصر لم تنقطع يوما منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد. التي يفترض أنها أنهت حالة الحرب وأخرجت مصر واقعيا وقانونيا من دائرة الصراع مع إسرائيل وما لحق ذلك من تصريحات متكررة عن أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب, وأن السلام هو خيار استراتيجي لمصر. كل هذا لم يشفع لإسرائيل في أن تغير من سلوكها ونواياها في مواجهة مصر. والواقع أن جوهر المسألة هنا يكمن في عقلية إسرائيلية ما زالت تحارب السلام وترفضه بل وتخشي علي وجودها التوراتي منه. وإسرائيل تدرك يقينا أن مشروعها الديني التوراتي هو عقيدة الدولة وأساس وجودها واستمرارها مهما بدت علمانيتها الظاهرة. إن هذا الدرس مثير للقلق والتشاؤم لأنه يجعل من حديث إسرائيل المزعوم عن السلام أكذوبة كبري يصعب أن نصدقها مهما حاولنا وحلمنا بذلك. ولربما يكمن خوف إسرائيل الأكبر علي نفسها من السلام ذاته. فهذا مجتمع ولد منذ أنفاسه الأولي في عام8491 مهيئا لأجواء الحرب والصراع ومعتادا علي تبعاتها ومتكيفا تمام التكيف مع متطلباتها لأن جزءا من تماسكه الداخلي مبعثه الشعور بالخطر. في هذا السياق التاريخي ستظل قضية السلام تحديا واختبارا للعقلية اليهودية المعاصرة قبل أن تكون موقفا سياسيا للدولة أو الكيان الإسرائيلي. الدرس الثاني يتعلق بالمصريين الذين تجاوبوا مع محاولات تجنيدهم من قبل أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية. كان الاعتقاد العام لدينا أن المصريين شعب متجذر في أرضه شديد الانتماء لوطنه مهما كانت قسوة ظروفه ومعاناته. ولهذا كان علماء الاجتماع يقولون إن المصري هو الوحيد الذي يقسم بغربته كما يقسم الناس بدينهم أو شرفهم أو حياة أبنائهم. ما الذي طرأ علي انتماء بعض المصريين لبلدهم في مواجهة عدوهم, وكيف نفسر أن يسعي مصري بنفسه للاتصال بأجهزة استخبارات إسرائيل عارضا عليهم خدماته؟ هل هو الفقر والحاجة والبطالة والحرمان؟ هناك من يعتقد في ذلك. وقد يري البعض أن الشاب المهاجر بصورة غير شرعية الذي يرمي نفسه في قارب صغير متهالك في عرض البحر مدركا أن احتمالات غرقه تساوي احتمالات نجاحه في مغامرته لا يختلف حاله كثيرا عن شاب يبادر بالاتصال بجهاز استخبارات أجنبي ليعمل جاسوسا ضد بلده, ففي الحالتين يبدو السبب هو الفقر والحاجة واليأس. الواقع أنه يصعب قبول فكرة أن الفقر وحده ما يدفع شابا مصريا لأن يخون بلده لسببين أولهما أن الفقر ليس جديدا علي حياة المصريين, ربما بلغ الفقر مستوي بائسا ويائسا غير مسبوق لكن المجتمع المصري في عمومه لم يكن مجتمعا غنيا مترفا, فلماذا تنامت هذه الظاهرة الآن فقط؟ ثم إن بعض من ثبت بحقهم التجسس لم يكونوا دائما من الفقراء الباحثين عما يسد رمقهم بقدر ما إن هذا المجتمع يزخر في الوقت ذاته بعدد كبير من الفقراء الذين يضرب بهم المثل في صدق انتمائهم وأمانتهم. أما السبب الثاني الذي يضعف فكرة اعتبار الحاجة المادية سببا لخيانة الوطن هو ما ثبت من أن المتهم بالتجسس لصالح إسرائيل في القضية المثارة حاليا لم يكن يتقاضي مبالغ مالية كبيرة بل كان يحصل علي مبالغ شهرية متواضعة كان بوسعه الحصول علي مثلها أو شيئا منها لو أنه اشتغل بائعا للخضراوات أو عاملا في محطة بنزين. ثم هل كان المسئول السوري الذي قيل إن الجاسوس المصري تعامل معه فقيرا بدوره حتي يبيع معلومات لإسرائيل عن مرفق حساس في بلده؟ وهل كبار الجواسيس الآخرين الذين اكتشفوا في مصر أو خارج مصر يعانون الفاقة والحرمان بالضرورة؟ علينا في الواقع أن نبحث عن سبب آخر لعله يكمن تحديدا في حالة الضياع والشعور بالتيه القومي الذي يعاني منه جيل من الشباب. نحتاج إلي باحثين وعلماء اجتماع لكي يقولوا لنا ما هي أسباب هذا الشعور بالضياع والتيه الوطني والقومي؟ تري هل هي حركة العولمة الجارفة التي تسعي لمسخ الأرواح وتشتيت العقول بحكم ما تمثله من إبهار واغراء وقدرة علي غسل الأدمغة؟ أم تري يكون السبب هو غياب محفزات الانتماء الوطني والقومي لعدم وجود مشروع ما أو حلم ما يؤمن به الشباب ويتكاتف حوله فيعوضه مؤقتا عما يعيشه في الواقع من حاجة وحرمان لأن لديه أملا في مشروع أكبر وحلم أكبر يسهم في بنائه؟ المؤكد أننا نحتاج لرؤية سوسيولوجية تفسر لنا لماذا يشعر بعض شبابنا بهذه الحالة من حالات الضياع والتيه. الدرس الثالث أن قطاع الاتصالات أصبح يمثل لأجهزة الاستخبارات الأجنبية أهمية استراتيجية قد لا تقل عن الأهمية التقليدية لقطاعات عسكرية وأمنية أخري. وما تم كشفه عما قامت به إسرائيل في لبنان من التنصت علي شبكات الاتصالات الخلوية وزرع جواسيس لها في بعض هذه الشبكات لا ينفصل عما أدلي به المتهم المصري بالتجسس من اعترافات حول محاولة لا تنضب موارده يتيح التعرف علي ما لا يخطر ببال أحد, ولعل هذا الدرس لن يمضي دون أن تأخذه الجهات المعنية بما يستحق من اهتمام. فالتجسس الالكتروني سواء علي شبكة الانترنت أو شبكات الهاتف سيلقي من الآن فصاعدا علي أجهزة الرقابة الوطنية مجموعة تحديات كبيرة. ما ينبغي تسجيله في نهاية المطاف وما يثلج صدورنا أيضا أن في مصر أجهزة وطنية ساهرة ويقظة تحمي في صمت ودأب مصالح الوطن العليا, هؤلاء هم حراسنا وأملنا ومبعث فخرنا في زمن اختلاط الرؤي وضبابية الأشياء.