يضع محمد سليمان يده علي العادي والمألوف فإذا به يتوهج شعرا وينتفض حياة وإبداعا, تماما كما كان ميداس في الأسطورة المعروفة يلمس كل شيء فيتحول الي ذهب, وكانت مأساته القدرية حين لمس محبوبته فأصبحت تمثالا من ذهب, لانبض فيه ولاحياة. لكن محمد سليمان يتسلل إلينا بنبرته الشعرية الهادئة, التي اكتست بعض تجاعيد الحكمة, والتأمل العميق في الحياة والكون, وينفض أمام عيوننا معجمه الشعري المنسوج من النجيل, والمحار, والباص, والخطاطيف, وخيار البحر, وميدان التحرير, وشارع شبرا, وأرصفة المترو, والشيخ, والسيسبان, وغيرها من مفردات الواقع اليومي, مشيدا منها صروح عالمه الشعري وأبهاء فضائه المزدحم بالكائنات, قبل أن يتكيء إلي موقعه ويغني. ومحمد سليمان بين ثلاثي عقد السبعينيات الشعري في مصر, الذي يضم إليه حسن طلب وعبد المنعم رمضان يبدو حريصا علي أن يكون أقربهم إلي دائرة التلقي بالمعني العام بعد أن سحرت حسن طلب غواية اللغة والحس الفلسفي, وأصبحت لعبد المنعم رمضان لغته الحميمة المولعة بسخرية المفارقة ولذع الكوميديا السوداء وبراءة الفاتل الطفل. أما محمد سليمان فلم يفارق بعد كهف جنية الشعر, وهو ناجح في تواطئه معها, ونصب شباكه غير المرئية من حولها, وإيهامها بأنه مجرد عابر سبيل, لايعنيه كثيرا أن يتلكأ بين يديها, واثقا بأنه غانم من كنوزها في ختام الأمر, حين تلين وتعطي. وهو يرمي شباكه لجنية الشعر, ببساطة من يبذر الحب ويكمن في انتظار الطيور المتساقطة, وهي تتهاوي من عل, لتصبح فجأة بين يديه, ثم هو قادر علي أن ينطقها بكل مايود أن يقول: أنتظر رسائل تأتي, لا أعرف من أين! لا أحد هناك يراني لا أحد هنا ينحاز إلي لكني خلف السور كميناء مهجور أنتظر وأرنو وأغربل بالأذنين الريح وأصغي مثل وحيد القرن هل ألمح صوتا يضوي وينقر كالعصفور ليوقظ نخلا؟ أم أحتال, لكي أختصر البرد قليلا؟ ومحمد سليمان في تواطئه مع جنية الشعر, لايخفي انهماكه الدائم وبحثه عن لغة صارمة وجديدة, فهو يعي تماما أن للشاعر لغته, وبقدر ما تنفرد للغات وتتباعد تتأكد حقيقة الشاعر ويتعاظم إنجازه. والثلاثي الذي يمثل واسطة العقد في عقد السبعينيات الشعري, والذي هو خلاصته وأثمن ما فيه, لم يفارقه أبدا هاجس اللغة, ولم ينقطع لحظة واحدة عن تأمل جماليات الشعر العربي في امتداده وتطاوله واكتشاف لغته المدهشة, في قدرتها وحيويتها معا, في اكتمالها وانفتاحها معا, في بوحها وإخفائها كما يقول محمد سليمان: أبحث عن لغة صارمة وجديدة أبحث عن لغة لاتركض فيها الفوضي وأعاصير الماضي هل تعرف أن اللغة تقول وتخفي وتسميك الآخر كي أخشاك وكي أرتاب كثيرا حين تطل وكي ترتاب إذا حييتك أتمني.. أن أكتب بالأرقام قصيدة! ما الذي يتماوج أمام عيوننا في مرآة محمد سليمان وهو يقدم أحدث مجموعاته الشعرية أكتب لأحييك عن سلسلة أصوات أدبية التي تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة؟ أكاد ألمح يدا ممدودة, تندي إنسانية ومحبة, بحثا عن اليد التي تمتد إليها, لتكتمل دائرة السلام والصحبة والإيناس والتحايا. هذه الوحدة القاسية الهائلة, الملازمة منذ الطفولة, وهذا الامتلاء الحميم بمعضلة الحياة والبشر, دون إحباط أو يأس, وهذا التوق القاتل لتواصل يعيد إلي الإنسان توازنه مع الكائنات والأشياء, حتي التي لاتتفق معه ولاتشبهه. هي بعض لوحات الحياة الحقيقية والوجود الحقيقي الذي لايبدأ إلا من نقطة التماس مع الآخر, التي يتاح لها بالمشيئة الحرة, والنزوع المطلق اكتمال وتآزر, فتصبح جدلية الحياة المثيرة حينا, والمنفرة حينا آخر. بحثا دائما مشتركا, وتحايا شعرية بديعة: قد لا أتفق معك قد لا أشبهك تماما قد أبدو في الناحية الأخري محجوبا عنك وأعمي قد أصحو حين تنام, وأغفو حين تقوم وقد لا أبدو عند النهر جميلا حين أرش بماء ظلي وأسمي نفسي الماهر حين أعوم قليلا قد لا آكل كعكا مثلك في الأعياد ولا أتسلي مثلك في الأعياد بشرب الكوكاكولا قد أبدو فظا كالجندي, مملا أحيانا وثقيلا قد أدعك وحدك فوق رصيف المقهي كي أركض وحدي في الميدان الخالي مغبرا وطويلا كنهار المفلس أو كشهور الصيف وقد أتخلي عن بعض كنوزك يوما لأواصل عدوي لكني أعدو بحثا عنك, وأكتب لأحييك! ويا عزيزي المبدع محمد سليمان: لماذا تصنع لنا كمينا, وتأسرنا هذه اللغة المسكونة بالتواضع, المشحونة بالإباء والشموخ والكبرياء؟