رأيتني في طرقات متداخلة, أسير بين دواوين مزدحمة بالرواد, وتفوح منها عطور طابت لي, وسكرت بها, وملأت نفسي من أحدها, فدرمغني السكر حتي غبت, ثم أفقت, وجدتني في غرفة. وحولي من يقولون: جري لنا مثل ماجري لك. وتركوني قائلين: تجهز, وأخرج, حدثنا عن صاحب هذا المكان. فحرت من هو, وماذا أقول, ورأيت نجيب محفوظ داخلا, وأوقفني في الحيرة وقال لي: أنا صاحب الديوان, أخرج اليهم, فقد حضر دورك. وقال لي: هذا الجمع بعض أفضالي عليكم, فما جمعتكم لي ولكن لأنفسكم, إنها دقائق من الكلام عني, لاترفع ذكري, ولا تعرف بي من لايعرفني, لكن تكلموا, إن الكلام باب من أبواب, الكشف, وبه تتم الرؤية, ولعل بعضكم يري في أنواري بعض بعضكم. وقال لي: إنها دقائق من الكلام عني فاجعلنا في الدقائق. وقال لي: تتكلم لمن هم بين العلم, والمعرفة, والوقفة, ولكل منهم لغة يتكلم بها ويفهم, ولو لم تكن قلوبهم ترجمان لسانك لما فهمك أحد. وقال لي: أوليائي هم أهل المعرفة, خاصة أحبابي هم أهل الوقفة بي, ولا علم لي بأهل العلم, فالعلم حجاب بيننا, أما أعدائي فهم كدابو الزفة. وقال لي: وضعت كل شيء في خدمة قلمي, وماجعلت قلمي في خدمة أحد. وقال لي: تحدث عني كل شيء عدا لساني. وقال لي: من كبير حكمتي, لاحقت الحادثات بقلمي, لا بلساني. وقال لي: أعلم أن اصالة التلقي نادرة كأصالة الإبداع, فإذا القطيع زامر مع كل نفير, وقد رأيت البروباجندا غالبة علي الحقيقة فيكم, وكدت أبكي من ضياع الإنصاف بينكم, ولا أري لك في البكاء وسيلة أو غاية أو سلوي, اصبر, وثابر, دع الظالمين في زمرهم, اطرح عنك الامل في جائزة من غير ذاتك لذاتك واعمل أنت وسيلة وغاية وسلوي, حتي يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. وقال لي: الكاتب من كتب من ذاته لذاته, لا للذاته, أما من كانت كتابته لجائزة يصيبها, أو سفرية يقتنصها, ومؤتمر يختال فيه, فكتابته لما انكتبت اليه. وقال لي: أما دريت أن الزمن خير غربال؟!, وأين عطورهم الآن الذين شغلوا أنفسهم بالبروباجندا من أقراني؟! منهم من كانوا ملء السمع والبصر بغير أقلامهم, ألا إنهم هم الموتي علي الحياة الدنيا يقعقون بالآراء في كل المناسبات, ويستهلكون أعمارهم في ظاهر الندوات والمؤتمرات, وتوافه الخناقات, والبيانات, ومقالات المقالات, والقرع والمجالات, ويفتعلون في الفيس بوك الجروبات, وغير ذلك من المهلكات. وقال لي: أما أنا فقد شغلني قلمي عن البروباجندا, فكن مثلي, ولاتظن في نفسك النقص, قلمك هو الحياة العليا, وإن تقربك البروباجندا من غيرك, فإنها تبعدك عن قلمك, وفي البعد عنه بعد ذاتك. وقال لي: تدهشك كياستي في إدارة موهبتي, وتوجيه طاقاتي, فانظر كيف تفعل أنت بوقتك, ولا تقلدني, لكل عصر ظروفه, ولكل شخص بلاويه. وقال لي: والله ما خططت لهذا, ولكني عملت علي شاكلتي فكان ما كان من شأني. وقال لي: هلك من لم يعمل علي شاكلته, أنا رب النظام والجدية, تلك شاكلتي, فاعرفها, واعرف غيري من الأرباب, واعمل علي شاكلتك تسلم. وقال لي: لكل كاتب مشاعر مميزة تتملكك عند الإمساك بأحد أعماله, أو حتي سماع اسمه, إنها جماعة الانطباعات المستخلصة من قراءته أعمالا, وسيرة. وهذا هو العطر. وقال لي: أنا من عطور مصر, خذ ما استطعت مني الريادة, والتطور, وعمق الرؤية, وخذ من يوسف إدريس العنفوان والجموح, وخذ من يحيي الطاهر عبدالله سلاسة اللغة, وخذ من خيري شلبي التدفق والصياغة, وخذ من جمال الغيطاني رهافة الحس, ونمنمة المشاعر, إن شئت إدوار الخراط فعليك منه بالإصرار وغزارة الإنتاج, وإنك واجد ما يؤخذ من كل كاتب, فخذ من غيرنا ماشئت, ولاتنس نصيبك من أقرانك, وأمزجنا بذاتك, يكن لك عطرك, ولا يميزنا فيك أحد. وقال لي: ويلك إن لم تأخذ من عطور العالم كأخذك من عطور مصر أو أكثر, وإنك واجد المعلمة في تولستوي, والغور المتوحش في النفس عند ديستوفسكي, والفهلوة في كونديرا, ومتعة الألوان الصارخة عند ماركيز. وقال لي: تلك أمثلة, ولو طوفت طول عمرك بين العطور لما فرغت منها, فطور عطرك ماحييت بإضافات جديدة. وقال لي: كفاني من الفضل أن رفعت من قدر الروايات بين عموم الناس, فتري الجاهل والغافل وذوي العلم والمعرفة والوقفة سواء علي الفخر بي. وقال لي: إن أقل لك قد بلغت الغاية, فلاتظن أنها نوبل, ولكن أني كتبت حتي آخر يوم في عمري. وقال لي: وأما الغاية التي لاتدرك, ودونها كل غاية, فأن تكتب كل ماتتمني كتابته. وقد بلغت في ذلك مدي كبيرا أرجوه لك, ولخاصة أحبابي من أهل الوقفة بي. وقال لي: انظر رواية صبري موسي فساد الأمكنة, تري أنه رب رواية خير من ألف. وقال لي: أما أنا, فقد غزرت كتاباتي, واستدامت جودتها, وإنك واجد جمهور الكتاب لا يعرفون متي يعتزلون, ويكررون ما كتبوا بأسامي أخري, فهم كلاعب الكرة الذي انتهت صلاحيته, يظلون في الملعب, وقد أصاب أسماعهم ثقل وحول, فيظنون الجمهور يهتف لهم, فيما هو يهتف بهم كفاية,... حراام. ادع الله ألا تكون منهم إن عشت وكتبت. وقال لي: تسمع مايرضيك وما لا يرضيك فيما أذعت بين الناس من أعمالك, فلا تغتر بهذا, ولاتدع لذلك علي همتك من سبيل, واجعل كل همك عملك القادم, استعن علي إتمامه بما يرضيك, واستعن به علي ما لايرضيك. وقال لي: أراك تنصت لمن يخالفك في شخصي وفني, ويلتبس عليك مابين خصوصية رؤيته, وقشرية رغبته في خالف تعرف, وأنت بإنصاتك له تعطيه مايحرمني ويحرمك منه, ألا وهو احترام المختلف عنك, ادع له بالهداية, ولاتحرمه مما حرمني وحرمك, فإني أكره لك أن تكون مثله. وقال لي: لاتظن جديد الكتابة في حداثة الظهور, الجدة في الجودة, وأنا جديد يزيد الوقت من قيمتي, وقد رأيت بينكم كتابا يولدون عجائز, وحياتهم مع الموتي علي الحياة الدنيا. وقال لي: أشفقت علي من يتحدث عني ولم يقرأني, وقد عرفت أنه من كدابين الزفة. وقال لي: أرأيت الي القائل بتجاوزي, اعلم أنه لا أحد يضع في اعتباره تجاوز أحد إلا صغيرا في نفسه, وأما الكبير في نفسه, فلا ينشغل بغيره وإنما بذاته, قد أفلح إن وصل إليها, ناهيك عن تجاوزها. ألا إنها حرب ذاتية, يخطيء من يظنها حربا أهلية. وقال لي: آحذر كبار الكتاب, ليس كل كبير بالسن كبيرا بالقيمة, ولا كل كبير بالقيمة, كبيرا بالنفس, وإن عين الخيال تري الكاتب بما هو كاتب, وعين الرأس تراه بما هو شخص, فإذا بين الرؤية والرؤية بحر من الظلمات, فيه حيتان لا تستأمن علي المحبة. وقال لي: لم ترن بعين رأسك, ولعلك رأيتني بعين الخيال, فعرفت مما وراء أعمالي, وما حكي به الناس, أني كنت ذا نفس متواضعة, دءوبة, حكيمة, ونافذة البصيرة, ولو قد رأتني عين رأسك, لوجدتني كما رأتني عين خيالك. وقال لي: لا يراك من كانت نفسه حجابا بينه وبين العالم, ولو قد رأتني عين رأسك, لرأيتك, فإني لم تكن نفسي حجابا بيني وبين العالم, وهذا هو تواضعها. وقال لي: بيني وبينك سر, إن داومت علي كتمانه, فلك مني البشري. [email protected]