لا تزال حركة المد الثقافي تتواصل عبر عديد من البدهيات التي تتوالي أمامنا كأنها الحقيقة في حين أننا نبتعد كثيرا عن وجه الحقيقة الصريح.. أتحدث عن هذه الحالة التي مازلنا نعيش فيها والتي أشرنا إليها أكثر من مرة دون جدوي, فما زلنا نتعامل مع ما يصدر لنا من مصطلحات كأنه واقع حقيقي. ولأن الواقع لا يتغير; ولأن.. الجميع يخطئون هنا; يظل السؤال قائما ومشروعا: ماذا يحدث حولنا؟!. أقول, رغم ظهور كل هذه المفاهيم وتعميقها مما لا يخرج عن هذا المعني, فإن مثقفينا مازالوا يغرقون في هذا التعميم; إننا من آن لآخر في حاجة للنظر في المصطلحات أو قل المسميات التي نرددها, إما عن تسرع- وهو ما يتوافر كثيرا بيننا الآن- نقلا عما يتردد حولنا سواء وسائل الإعلام العربية أو الغربية أو عبر المحدق المدقق علي الشبكات الالكترونية. أثار هذا كله هذا الكتاب الذي صدر أخيرا عن مركز الأهرام للترجمة والنشر( حياة بني إسرائيل في مصر بين حقائق الدين ومصادر التاريخ) فالكاتب هشام سرايا يخضع منذ العنوان إلي المنهج الذي التزم به, فقد كان واضحا أشد الوضوح حين راح يضع تاريخ بني إسرائيل في مصر بين دفتي الدين والتاريخ كي لا يحدث اللبس المروع بين الماضي والحاضر.. كان المؤلف واعيا للإطار التاريخي الذي اختار فيه موضوعه ومما انتهي إليه منذ البداية من أنرواية العهد القديم_ كمصدر تاريخي- لا يمكن للباحث التسليم بها كحقائق ثابتة صحيحة. وفي الوقت ذاته لا يمكن استبعادها من مجال البحث فهي ذات أهمية كبيرة وفعالة في أحداث القصة; ذلك أن من صاغوها في العصور التالية_ كما يؤكد الباحث_ لاشك كانت لديهم بعض أصول مكتوبة وتراث تاريخي متداول نقلوا منه, فهي تحوي تاريخا معاصرا للأحداث إلا أنه_ للأسف_ حمل رغبات وأهواء من كتبوه.. وعلي هذا النحو فإن الباحث يؤكد من البداية أن مجال البحث هو رواية العهد القديم الذي سوف يكون محاطا بضمانتين: القرآن ومصادر التاريخ.. الماضي لا الحاضر بأي شكل.. بيد أن العنوان والمنهج الذي التزم به يثير فينا هذه الحيرة المعلقة وذلك السؤال الراهن: ماذا يحدث حولنا ؟ وهو ما يعيدنا للبدهيات.. وهو ما يعيدنا أيضا لهذه العلاقة التي يريد الغرب الإمبريالي في الشمال أو الغرب الصهيوني في فلسطينالمحتلة تأكيده; أن التاريخ هو الحاضر, وان ما حدث في التاريخ لليهود هو هو محدث لأسلاف صهاينة اليوم, فمن المؤكد هنا أن العلاقة الفارقة بينهما يؤيدها البحث التاريخي, كما يؤيدها المنهج التاريخي الذي أشرنا إليه من قبل في العصر الحديث والذي يؤكده كل من جمال حمدان وعبد الوهاب المسيري بعده من أن ما يحدث في فلسطين العربية اليوم إنما ينتمي لأصحاب هذه الجماعة الانحيازية التي هي_ كما رددنا من قبل علميا- ولا بأس أن نردد مع حيرة السؤال أن هذه الجماعة الانحيازية التي أشرنا إليها مرارا من أنها مجموعات بشرية تستجلب من خارج المجتمع وتجند من داخله ثم يوكل لها وظائف شتي لا يمكن لغالبية أعضاء المجتمع القيام بها لأسباب مختلفة من بينها أن هذه الوظائف قد تكون مشينة كالربا والبغاء أو ذات طابع أمني حساس كحراسة الحكام أو أطبائهم أو الجواسيس أو السفراء ثم يعرف أعضاء هذه الجماعة في ضوء وظيفتهم المحددة لا في ضوء إنسانيتهم الرحبة المركبة.. إلي غير ذلك من التعريفات التي تحدد واقع هذه الجماعة اليوم.. ورصد ما يحدثه أصحاب هذه الجماعة الانحيازية يضع بين أيدينا عشرات إن لم يكن مئات الأمثلة التي يمارسها المتعصبة هناك اليوم وعلي سبيل المثال(.. عيد يسني سوكوت العرش أو المظلة صورة, حيث يحتفل فيه اليهود بذكري خروجهم من مصر في القرن-13 ق.م. ويؤدوت صلوات شكر لوهبهم الله المحاصيل الوفيرة حسب زعمهم!! وفي بعض القري التعاونية التي تسمي بالكيبوتسيم يحتفل بهذا العيد علي أنه عيد الحصاد!! ويحتفل بحصاد القمح الثاني من الحنطة وفواكه الخريف وببداية السنة الزراعية وسقوط الأمطار الأولي!!) وعلامات التعجب من عندنا لا تنتهي مما يعمق المفهوم العنصري أو الوظيفي, خاصة حين نلاحظ علي خارطة الواقع السياسي أن هناك جناحين لليمين العنصري الذي يتمثل في اليمين القومي مثل حزب الليكود وإسرائيل بيتنا والاتحاد الوطني, واليمين الديني ومن أبرزها شاس والمفدال ويهوديت هتوراه.. الي غير ذلك مما يكرس معه هذا المفهوم لتأكيد مشروعية العنف.. أعود للكتابات وعلامات الحيرة التي لاتنتهي: مازلت أذكر منذ فترة بسيطة كنت علي وشك مناقشة كتاب يحمل عنوان( شخصية اليهود في القرآن الكريم) وفيه راح د. مصطفي عبد العاطي غنيمي والحاضرون من مشايخ الأزهر والأساتذة يتحدثون علي الهواء عن اليهود داخل القرآن وخارجه مع أنهما طرفا نقيض. ومازلت أذكر الشيخ عكرمة صبري وهو يردد- في مكتبة الإسكندرية أو نقابة الصحفيين في القاهرة- فيأثناء زيارته الأخيرة لمصر_ وهو في حالة غضب عارم علي ما يقال في وسائل الإعلام العبرية من نفس المصطلحات, بل قام( نقل) المصطلحات الإعلامية التي تردد هناك من وصف حائط البراق بأنه حائط المبكي, ووصف مستوطنة أبونيم بأنها مستوطنة حرقونه-هكذا... وهل نحن قبل هذا وبعده في حاجة لنذكر القارئ الواعي بأن المفاوضات في جولة واشنطن الأخيرة تكاد تنتهي لإصرار الطرف الإسرائيلي علي الاعتراف الفلسطيني بأن إسرائيل دولة يهودية, فمازال الفكر الليكودي الصهيوني المتوارث عن حركة حبروت التي تعد فلسطين من نهر الأردن إلي البحر أرض إسرائيل, ثم يأتي من أصحاب هذه الحركة من يردد التاريخ اليهودي في التوراة علي أن أصحابه هم أجدادهم, ثم يأتي_ ويا للعجب_ من بيننا من يردد مثل هذا الزعم ليلغي الدور العربي ويعيد المعني الصهيوني.... ولا نحتاج إلي النظر يمينا أو شمالا عبر شبكة الانترنت أو الوسائط الإعلامية والرقمية أو حتي ندوات كتابنا الكبار حين يغيبون في أسماء وتعريفات وصيحات يغيب فيها الوعي الصحيح للمفردة أو المصطلح المتداول( هل نذكر القاريء الكريم بالدهشة من اسم أبناء العم أو فيلم سلطة بلدي او ما جاء في مسلسل ما تخافوش أو ما نردده في برامج التوك شو التي لا تنتهي والتي يغيب فيها المعني البدهي للتعريف؟) إلي غير ذلك مما يثير الدهشة ويعيد السؤال الحاضر الراهن: ماذا يحدث حولنا حقا؟!