إذ يغادر الرئيس لولا دا سيلفا قصر رئاسة جمهورية البرازيل في برازيليا, عاصمة البلاد ذات الطراز المستقبلي بعد فترتي الرئاسة, يجمع العالم علي انه يحتل المكانة الأولي بين جميع رؤساء دول العالم المرموقين. وذلك باعتراف الرئيس الأمريكي اوباما بينما تؤكد الأرقام انه مازال يتمتع بثقة80% من مواطنيه.كشف حساب السنوات الثماني التي رأس فيها لولا البرازيل اثار اعجاب العالم ذلك ان عشرين مليون برازيلي صعدوا من ساحة الفقر إلي الشريحة الأولي من الطبقة الوسطي. ومعني ذلك أن نسبة البرازيليين الذين يعيشون تحت حد الفقر انخفضت من38% إلي22% خلال8 سنوات. هذا بينما يستمر معدل التنمية السنوية في ارتفاعه حتي بلغ8.8% عام2010. وقد استطاع اقتصاد البرازيل ان يواجه الأزمة الاقتصادية العالمية في نهاية عام2008, وكان أول من تعداها بعد سنة فقط أي سنة2009. وكذا انتقل الحد الأدني من الأجر إلي210 يورو أي بارتفاع9.68%, البطالة تمثل اقل من7% من طاقة الشعب العامل, وكذا فإن التضخم لا يتعدي نسبة4.5% سنويا. وقد انشأ لولا نوعا جديدا من الحوافز اطلق عليه بولسا فاميليا( أي المحفظة العائلية) وهي تتمثل في تقديم عون مالي لا بأس به إلي الفئات الفقيرة بشرط أن تتعهد بارسال اطفالها إلي المدارس وتطعيمهم الصحي, أي أنه نجح في اقتحام سقف الفقر, بالنسبة للغالبية العظمي من الشعب البرازيلي الفقير إذ رفعهم إلي مستوي المرتبة الأولي الدنيا من الطبقة الوسطي. وقد نجح في رفع حجم ونوعية المنتجات الزراعية, حيث اصبحت البرازيل علي طريقها لتصبح المورد الأول للمواد الغذائية خاصة الصويا إلي سوق الصين العملاقة. وها هي البرازيل, بفضل ريادتها, تكشف ساحات واسعة من حقول النفط والغاز قرب سواحلها في اعماق المحيط الأطلنطي, وهي الآن في طريقها إلي التنقيب بشكل مكثف حتي تصل إلي مصادر هذه الثروة الجديدة. قائمة المنجزات الاقتصادية والاجتماعية تمتد, تتعدي حدود هذا المقال, واهدافه. المهم أن ندرك ان البرازيل ليست بلدا من النوع الوسيط أو الكبير, وانما هي بمثابة قارة يسكنها مائتا مليون نسمة يتوزعون بين27 مقاطعة تتمتع بقدر من الاستقلال الذاتي بينما تنتشر احزاب عديدة ومؤسسات غاية في التنوع من حيث خصوصيتها وكل هذا في دولة هائلة اسمها البرازيل. الرجل نشأ في قلب الطبقة العاملة الفقيرة واشتغل حدادا ثم ارتقي إلي مستوي الزعيم النقابي, واجتهد لتحصيل العلم بكل ما اتيح له خلال هذه الفترة عبر المعارك النقابية والسياسية والاضطهاد. وما ان انتخب رئيسا عام2003 حتي حدد لنفسه الهدف التالي علي حد قوله: بدأنا ان نقيم الركائز حتي يستطيع اشد الفقراء فقرا ان يرتفعوا إلي مستوي الطبقة الوسطي الدنيا وبعد ذلك إلي مستوي الشريحة الوسطي من الطبقة المتوسطة, بحيث تصبح فيه الغالبية العظمي من الطبقة الوسطي. نكتفي بهذا الحد في مجال الاقتصاد والاجتماع لنتساءل: كيف استطاع رجل من صميم الشعب الفقير أن يحقق هذه المعجزة؟ اولا جاء لولا إلي الحكم مشبعا بافكار حزب العمال الذي كان هو رئيسه. وكانت هذه الأفكار تقضي بسياسة اقتصادية ثورية ترفض جميع مؤسسات اقتصاد السوق حتي لو أدارتها الرأسمالية الوطنية لتتجه دفعة واحدة إلي اقامة نظام اشتراكي في البلاد. ادرك الرئيس لولا ان اهم ما يجب صياغته انما هو ثبات الاقتصاد البرازيلي الذي ورثه من سلفه كاردوزو وكان سلفه قد نجح في السيطرة علي الغلاء المتوحش وان يحقق استقرارا ونموا للبرازيل. قرر الرئيس لولا أن يواصل العمل في هذا الاتجاه لتأكيد الواقعية الاقتصادية ونجح تدريجيا في تسديد الديون الخارجية وتثبيت سعر العملة بفضل وزير المالية بالوكي ورئيس البنك المركزي ميرلاس بحيث انتشر في بلاد اجماع وطني ضد التبذير باسم التغيير. وقد اثارت هذه السياسة الواقعية سخط قطاع من اليسار البرازيلي علي اعتبار ان الرئيس لولا ابتعد عن برنامج لولا الزعيم النقابي والعمالي, وكان من واجبهم ان يدركوا ان استقرار الاقتصاد البرازيلي, هو الذي اتاح للرئيس لولا ان يقتحم ساحة الفقر ويرفع من مستوي معيشة قطاع واسع من الشعب الفقير والعامل بشكل مضطرد, وهو ما حدث دون توقف في عهده. ما هو سر هذا النجاح تري؟ وعندنا انه ادرك لولا الأهمية القصوي لاستمرارية وتواصل التقدم والبناء علي ما اقامه الاسلاف, مع ادخال التصحيح اللازم واضافة عناصر العقلانية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية التي لا يمكن ان تتحقق إلا إذا يدرك زعيم كل مرحلة ان من واجبه التاريخي وكذا الواقعي ان يواصل المسيرة, لا ان يقطع الصلة مع ما حققه الاسلاف, حتي لو كانوا من توجهات ايديولوجية مغادرة. ذلك ان المهم الأهم, العامل الحاسم في التقدم والبناء يتمثل في التعبئة المجتمعية التي تعني الاعتراف بايجابيات ما تم والافادة من دروس الماضي لتحقيق التقدم واقتحام الحصار. استطاعت البرازيل بفضل هذه السياسة بعيدة النظر التي ابتدعها رجل من الشعب العامل ان تحقق معدل نمو مطردا سنويا خلال السنوات الماضية بلغ هذا العام8%. لم يأت رجل الشعب العامل ليصفي حسابات لم يتذكر للماضي بل احتضن كل الايجابيات, وواصل العمل بها, ثم اضاف ادوات سياسية واجتماعية واقتصادية رفعت من شأن قارة البرازيل إلي المقام الأول بين الدول النامية. ثانيا من هنا استطاعت البرازيل, بقيادة الرئيس لولا ان تقيم ركائز تجميع قارة امريكا الجنوبية تدريجيا في منظمة ميركوسور منذ سنوات, ثم اتجهت إلي اقامة اتحاد لأمريكا اللاتينية تجتمع في رحابه جميع دول امريكا اللاتينية الشمالية والوسطي والجنوبية, وذلك تأكيدا لخصوصية أمريكا اللاتينية التاريخية والثقافية, وكذا اعلانا انها ليست جنوبالولاياتالمتحدة وانما عالم قاري يمثل دائرة ثقافية لها جذور حضارية مغايرة وبالتالي لها توجه لنهضة بعيدة المدي لو اصرت علي تعبئة جميع طاقاتها والحفاظ علي استمرارية ما حققته من انجازات ايجابية, تأكيدا مرة أخري لأولوية التعبئة المجتمعية والتراكم الحضاري علي امتداد دائرة حضارية طال تهميشها خاصة باسم نظرية مونرو التي اعلنت فيها الولاياتالمتحدة عام1823 انها صاحبة الشأن الأول بالنسبة لأمريكيا اللاتينية كلها. ثم انطلقت البرازيل برئاسة لولا إلي الساحة العالمية وانضمت إلي عضوية القائمة الأولي للمرشحين للحصول علي مقعد دائم بمجلس الأمن باسم امريكا اللاتينية, وكذا دخلت إلي دوائر الدول الصاعدة الكبيرة, إلي حد انها اصبحت احدي الدول الأربع التي منها يتكون رباعي الدول الصاعدة إلي مكانة الكبار بتسمية بريك الصين البرازيل روسيا الهند, وكذا اقامت مع الصين علاقات استراتيجية لافتة في مجالات الاقتصاد والطاقة والتكنولوجيا, بالإضافة إلي الزراعة كما ذكرنا. ارتفعت التهديدات في المجال الدولي بعد غزو العراق ثم افغانستان واتجهت العدوانية إلي إيران وكذا محاصرة العالم العربي. وعند هذا الحد رأينا البرازيل تتحرك يدا في يد مع تركيا للوساطة بين إيران وجبهة دول الغرب, محاولة بشكل ساطع القيام بدور لم يكن في الحسبان لأمريكا اللاتينية كلها بهدف اقصاء الحروب وشق طريق الواقعية نحو صياغة العالم الجديد. قال صاحبي: ثم جاءت لحظة مغادرة الحكم حسب الدستور. لحظة الشموخ حقيقة. رفض لولا ان يلبي امل شعب البرازيل بتعديل الدستور لتولي الرئاسة مرة ثالثة. أصر علي احترام الدستور دون استثناء.. يدخل الرجل تاريخ البرازيل والعالم المعاصر من أوسع الأبواب قائدا زعيما رائدا, ليواصل مشاركة البرازيل في مرحلته الجديدة.