(1) قبل اثنين وأربعين عاما, كنا شبابا نذهب ونأتي في الباحة الخارجية لمقهي ريش المفتوحة علي قاهرة هذه الأيام, أثناء مروري من هذه المنضدة إلي تلك رأيته يقوم معترضا طريقي بقميصه المكوي ويقبض بيديه علي حافة مسند المقعد القائم بيننا ونحن وقوف, ومال قليلا إلي الأمام بنظارته الطبية وشعره الكثيف الأسود, وقال متمهلا: أنا اسمي فاروق عبد القادر. سامع عنك كتير, ياريت توفر لي كم قصة أقرأها وأرجعها لك. لو سمحت. (2) بعد يومين قرأ ودعاني ليلا إلي محل روي في شارع سليمان. وهو الخبير بالمكان, أعطي أحد عمال المحل قروشا, ولم يمر وقت حتي كانت كل المساحات الشاغرة بين الأكواب والزجاجات, مشغولة بصحون صغيرة ممتلئة بقطع من الكوارع وشرائح الكرشة المسلوقة ولحمة الرأس. منذ ذلك المساء البعيد امتدت صداقتنا. لم تنقطع حبال الود ولم تشبها رغم الأهوال شائبة. وفي مكالماتنا الفكهة التي نبدأ بها صباحات الأيام نتذاكر القراءة والكتابة والكتب والأصدقاء والناس, ولا نغفل طبعا, عن مراجعة ما شئنا من أحوال البلد, ما جري لها ولنا, وننتهي علي موعد بلقاء قريب نادرا ما يتحقق. كان صاحب ذاكرة غير مثقوبة. خزانة ثمينة مفعمة بالمعرفة والنوادر والأسرار. (3) عندما جاءتني كلماته ثقيلة متعثرة, ظننته عاد للشراب بعدما أقلع سنوات بإرادة لا مثيل لها, وشعرت بالحزن والحسرة البالغة خصوصا أنه كان يشرب بإفراط اذا ما بدأ, اتصلت بمحمد البساطي وأخبرته أن فاروق عاد, غالبا للشراب. طلبت منه أن يتصل به ويلاحظ طريقة كلامه ويخبرني. (3) أخبرتني الروائية هالة البدري أنها رأته في جلسته الأسبوعية بسوق الحميدية يذهب ويأتي ويمارس حياته بهذا اللسان الثقيل. ولأنها كانت رأت تجربة مشابهة أخبرته أنه يعاني من جلطة في المخ ولابد من عيادة الطبيب, وهو غضب منها واتهمها بالغلظة وعدم اللياقة وقاطعها. فجأة, علمنا أن الأحوال ساءت وأنه أصيب بعطب في الجانب الأيسر كله. غادرنا اجتماع لجنة القصة بالمجلس الأعلي للثقافة: الأصدقاء هالة البدري ويسري عبد الله وفؤاد قنديل واتجهنا إلي منزله. صعدنا السلم وجلسنا في الصالة الصغيرة شبه المعتمة, ولم تلبث المرأة الشابة التي تقوم علي خدمته أن جاءت به تعاونه من حجرة النوم.( قضي فاروق عمره وحيدا بعدما ماتت شقيقته). كان يجر قدميه متصلبا والروب القديم معقود حزامه علي جسده الذي صار هزيلا, بلحية بيضاء وعينين مفتوحتين لا تطرفان في وجه قنوع مشرئب ومبتسم. بدا فاروق مثل رجل جري تبديله. كنا استقبلناه وقوفا. والسيدة ضبطته في مقعد أمامنا. لقد عرفنا واحدا وراء الآخر. قال بصعوبة ونحن نتبادل تقبيله. أبو خليل, فؤاد, إزيك يا هالة. قليلا ثم يذهب بالحديث إلي مكان آخر, ولا يلبث أن يعود. (6) لم يمر وقت حتي تبينا أنه يتكلم متعلثما عن العمر, كيف أنه قصير, أقصر مما يتوقع أحد, لكنك تكتشف ذلك فجأة, وللأسف, يكون الأوان فات. وفي لحظة صمت مال إليه الأستاذ قنديل وأخبره, من باب المجاملة, أن أعضاء اللجنة كانوا يريدون أن يأتوا جميعا لزيارته, ونحن هنا عوضا عنهم. لم يكن شيئا من ذلك حدث بطبيعة الحال. وفاروق الذي يجالسنا أدرك. لم يكن غافلا حتي في مرضه عن مشاعر الكثيرين وخلافاتهم معا. سمع كلام قنديل وقال إن: المرض لما يأتي, يكون علي الناس أن تتجاوز ما بينهم من الخلافات, وتنسي: ده اللي انا عاوز أقوله دلوقت, قبل الواحد ما يتوكل علي الله, ويموت. وأنا رأيته. كأنه يطلب السماح ممن غضبوا.