في هذه الظروف العصيبة التي تمر بها مصر, لا أعتقد أن هناك مواطنا مصريا من حقه أن يزايد علي وطنية الآخر, فكلنا في قارب واحد نواجه العواصف والأنواء السياسية التي تهدد وبحق مصرنا, وأقولها بإصرار مصرنا لأننا أبناؤها بالإنتماء وبالتساوي.. وأزيد في القول وبإصرار أن مصرنا تواجه مخاطر حقيقية تحاك لها, وقراءتي لاتستند علي التنظير الفج أو الأكاديمي, ولكني أستقي سيناريو المستقبل من أمثلة أراها رؤي العين, وألمسها بمسامي وليس بأظافري. وأسمح لنفسي أن أتثاقل علي القاريء وأذكره بأن دولة إسرائيل قد قامت علي أسس وأهداف براجماتية واستراتيجية متكاملة, تهدف لقهر الصعاب بأسلوب قوة التجاذب المغناطيسي. فقد تلاعبت بكافة السياسات والأوراق السياسية علي مدي مايقرب من قرن من الزمان لتحقيق أهدافها التي فرضتها بالسياسة والحديد والنار. وكانت دوما تراهن علي الحصان القوي, وفي التوقيت الأمثل: فهي قد راهنت علي بريطانيا وحصلت منها علي ما يحقق أهدافها المبدئية لتكوين دولة إسرائيل مثل وعد بلفور, وتسهيلات الهجرة اليهودية, وتشكيل نواة الجيش اليهودي بعصابات الأرجون وخلافها, وتوقيت الانسحاب البريطاني من فلسطين الذي سمح للقوي العسكرية والسياسة الصهيونية بفرض إسرائيل علي خريطة الشرق الأوسط كحقيقة صارمة. وعندما شعرت إسرائيل أن نجم بريطانيا قد أوشك علي الأفول, عرجت علي القوة الأولي الصاعدة وهي الولاياتالمتحدةالأمريكية, واستغلت في سبيل تطويق الإدارة الأمريكية, شبكة عنكبوتية شرعت في إنشائها منذ أكثر من نصف قرن في داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية يطلق عليها الأيباك أو اللوبي الصهيوني واستغلت سيطرة الصهيونية الأمريكية علي الإعلام والمال والكونجرس الأمريكي لفرض إرادتها السياسية, من أجل تنفيذ مخططاتها لدعم الكيان الإسرائيلي علي حساب الكيان العربي. وأنتقل إلي مستند أراه جديرا بالتسجيل, وهو مقال نشره عوديد يينونODEDYENON في فبراير1982 بالجريدة التي تصدر عن إدارة إعلام المنظمة الصهيونية العالمية والتي تسميكيفيونيمKIVUNIM بالعبرية ومعناها بالعربية التوجهاتبعنوان الإستراتيجية الإسرائيلية في ثمانينات القرن العشرينAstrategyofIsraelinthenineteeneighties. وللتنويه فإن عوديد يينون كان ملحقا بوزارة الخارجية الأمريكية.. ويقوم المخطط علي أنه لتحقيق أمن وبقاء إسرائيل, فإنه يلزم تجزئة كل الدول العربية الحالية إلي دويلات صغيرة علي أسس دينية وإثنية وطائفية. ويدعم ماورد في مقال عوديد يينون, ماصرح به زائيف شيف المراسل الحربي لجريدة هآرتز في1982/2/6 ومعروف عنه أنه من أكثر المحللين العسكريين الإسرائيليين إطلاعا في هذا الشأن كتب زائيف إن تقسيم العراق إلي دولة شيعية ودولة سنية وإنفصال الجزء الكردي عن العراق, يعد أحسن ما يحقق المصالح الإسرائيلية. وما يعنينا هنا أن نركز علي ماذكره عوديد يينون في مقاله عن مصر باختصار, فقد قال: أن إستعادة إسرائيل لشبه جزيرة سيناء, بامكاناتها الراهنة والمستقبلية, هو هدف له أولوية سياسية إسرائيلية, لاستعادة البترول وعوائدة, وأنه يجب فرض الأمر الواقع الذي كانت عليه سيناء قبل توقيع اتفاقية السلام مع الرئيس السادات في مارس1979. إن أمام إسرائيل حلين: الأول غير عملي ولا يمكن اللجوء اليه إلا عند الضرورة الاقتصادية, وذلك بالغاء اتفاقية السلام بصورة فردية من إسرائيل. والثاني باللجوء إلي أسلوب التحرك المباشر وغير المباشر, لإعادة الوضع لما كان عليه بعد عام1967, استنادا لمحددات موضوعية قائمة أهمها: أن القدرة المصرية لن تمكنها من أن تحمي الوضع الراهن, كما أن مشاكل مصر الاقتصادية, واهتزاز الوضع الداخلي الناجم عن تصاعد حدة الانقسام بين المسلمين والأقباط, سوف يحيل مصر إلي جسد ميت سيؤدي إلي تمزيق مصر إلي أقاليم جغرافية مستقبلة, وحكومة مركزية ضعيفة. وتقديرنا أن هذا التقويم الاستراتيجي لعوديد يينون يمثل مؤشرات لأهداف الاستراتيجية الاسرائيلية الخفية والمأمولة. يدعم من هذا, أن المناخ السياسي والجيو استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط يجعل الاستناد إلي هذا الخيار أمرا مطروحا: فالعراق في طريقها للتقسيم بين شيعة وسنة وأكراد وربما تركمان. والسودان قد اقتربت من التجزئة إلي دولة مسيحية وأخري إسلامية. ولبنان تحكم بنفوذ ماروني يمثله البابا نصر الله صفير بزعامته الدينية وانعكاساتها السياسية, وآخر شيعي يمثله الشيخ حسن نصر الله بوزنه السياسي وقدراته العسكرية, وفصيل سني يشارك في رواق الحكم. ونفوذ سلطوي سياسي في الضفة الغربية تقوده فتح, ونفوذ ديني حماسي انفصالي في غزة تدعمه إيران بزعم أنها تحمي المقاومة الفلسطينية لتحرير فلسطين, وجهود إسرائيلية تهدف وبإخلاص وتفان لتكريس هذا الانفصال, وخلق جبهتين متصارعتين داخل فلسطين, لتجميد حل القضية حتي تنتهي من تحقيق كافة مخططاتها لإلتهام أراضي القدس وبعض أجزاء من الضفة الغربية. ثم تهديد الحوثيين للحكومة اليمنية, وإشعاعاته علي حدود المملكة العربية السعودية. وكذا تعاظم نفوذ إيران والذي يدعمه ويزكيه التفكك العربي. وأخيرا تصاعد نفوذ تركيا بوضعها كدولة اعتدال إسلامي ظاهريا, مع سعيها لتكريس نفوذها الجيو استراتيجي في الشرق الأوسط كهدف حقيقي... خلاصة القول أن معيار المزجح بين الدين والسياسة في محددات التحرك الإقليمي الجيو استراتيجي, صار من أدوات الرصد المستقبلي التي لايمكن إغفالها. وأعود إلي مصرنا, ولا أجد أمامي ما أقوله إلا أنني قلق عليها, فالوضع المحيط بها إقليميا سواء إسرائيليا أو حمساويا أو فتحويا أو إيرانيا, وحتي أمريكيا لا يجعلني مقتنعا بأن أمن مصر القومي في أمان. ولا أجد أمامي سوي أن أعود لما تعلمناه من أدبيات الاستراتيجية, أن الدفاع عن الخارج يبدأ بتأمين الداخل, وأهم معيار يلزم أن نتمسك به هو تعظيم قيمة المواطنة, فمصر هي أم لمن ينتمي اليها دون تفرقة دينية أو حتي سياسية, ذلك أن الإحساس بقيمة الوطن يبدأ بالشعور بالانتماء عبر معيار المواطنة الحقة.. فالمواطن المصري كانت له قضية وطنية تربطه بعجلة المواطنة, وتزكي من إحساسه بالواجب والرضا بمحاربة الاستعمار الأجنبي: الفرنسي ثم البريطاني, وأخيرا الإسرائيلي, وكانت المواطنة هي فرض عين علي كل مصري مسلما أو مسيحيا أو غيره لاسترداد السيادة والكرامة الوطنية حتي لو خبا من أجل تحقيق هذا الهدف السامي شعاع الديمقرطية الحقيقية وقتيا.. أما الآن فيلزم إزكاء معيار المواطنة الحقة من جديد: فالمصري لن يشعر بقيمته كمواطن, إلا لو أحس بأن له حقا في بلده, يكفله له نظام ديموقراطي حقيقي لا يقتصر علي حرية الحديث فحسب.. والمحصلة, أن الإحساس بالمواطنة الحقة هو الذي سوف يمنع جنوح التوجهات الدينية أو الإثنية أو حتي الطائفية, ويعيد اللحمة الوطنية المصرية لوضعها الأسبق.