أتابع بإعجاب وأحيانا بدهشة, رحلة سوزان عليوان مع الإبداع, وإصدارتها المنهمرة, الكاشفة عما تختزنه من طاقة قادرة علي البوح وقادرة في الوقت نفسه علي أن تشير من بعيد إلي كائنات وملامح وعلامات وظلال وأصوات وأصداء وانتصارات وانكسارات لم يجئ أوان الكشف عنها, والبوح بأسرارها بعد. وهو نفسه الإعجاب والدهشة اللذان اكتشفت بهما سوزان طالبة الجامعة الأمريكية في القاهرة في فصل دراسة الأدب العربي الحديث وهي تشارك بصوتها الهامس الخفيض, ووجهها الخجول وسمتها الحيي, في حوارات مابعد الدرس, ولم أكن أعرف وقتها أنها تجمع في تكوينها بين مزيج عراقي ولبناني, وأنها ستسافر في أماكن وأزمنة عديدة قبل أن يستقر بها المقام في بيروت, حيث وجدت حلمها في الاتصال والانفصال وحرية المغامرة والكشف والبوح, وطريقها الذي تنحت حجارته حجرا حجرا, وتصنعه علي عينيها, ليكون محققا لذاتها هي, ولغتها هي, وإبداعها المغاير هي. ونجحت سوزان عليوان في أن تصبح علامة متميزة ومساحة ضوء حافلة بالتألق, وسط كتابات كثيرة لأخريات من جيلها في القاهرة وفي بيروت, مازلن يبحثن عن نقطة البداية ويختنقن بواقع الضرورة وهمود اللغة, وعدم الامتلاء الكامل بخبرة الحياة ونضج التجربة المعيشة. ومايفوق الوصف في هذا الكتاب الجديد لسوزان عليوان منمنمات روحية كثيرة وشظايا ارتطام وجودي حاد بأبهاء عالمها الصغير جدا, الكبير جدا في اتجاهات عدة من اجل ملء فضاء الروح, وزعزعة يقين النفس, والانشغال الدائم بما يتجاوز والحسرة علي مايتقصف بين أيدي المتحابين, ويشحب لأنه مرتبك, ثم يموت: كان بوسعك إنقاذ العالم, فقط لو مددت يدك مسافة ظل, كان بوسعنا أن نكون الضحكة والأبد, مثلك: لن تربكني صيغة الماضي, أنا أيضا تؤلمني كلماتي. ثم وهي كأنها تتذكر: كأنني آخر يراني ويروي, خيال أو نافذة أو مشاهد قبر, الذي أحب وانتحر: أحد سواي, كأنني أتذكر بعيدا عن الاشياء التي لاتشبه أسماءها الخرائط والقصائد والدمي أغمض أغيب لأول مرة أسامح نفسي لئلا اسقط عن سطح القطار أقفز, أنفض عني ماليس مني أو لي. لم يكن صوتي ليست بصماتي ثمة من انتحل روحي وجرحنا, ياطيور أطلقيني. النصوص التي تتوهج بها هذه المجموعة ثلاثة وأربعون نصا أنفاسها لاهثة سريعة, مركزة مثقلة بالأسي حينا وبالحسرة حينا آخر تفجرها لحظات تأمل أو فزع أو حزن أو استغاثة فالليل طويل والمطر يرغمها علي غناء تحت هذا السقف بين هذه المربعات, في هذا المثلث الجارح. وهما كلاعبي شطرنج, كلاهما في رأس الآخر. تقول سوزان: في الغرفة الواسعة, حيث لا مرآة, ولاسلالم إلي النجوم لا أحد يفوز أو يخسر سواي زجاجة لكل هذه الكؤوس المكسورة طريق بمحاذاة طريق, كأنني مع مرآتي أمشي والقلب لايقسم, لكنها روحي, رقع بيضاء وسوداء, احتمال يسع الجميع, ولايجرح إلا نفسه. هنا ضربات الفرشاة أسرع وأوجع. والنفس قصير متلاحق. والصوت مشروخ ومفزع. هل اكتملت دورة المعاناة؟ وهل أوشكت الطيور علي الرحيل ومغادرة الأعشاش وهل صارت المقاهي بزجاجها الضاغط وعابريها الفضوليين كهوفا وأماكن محاصرة, يختنق روادها تحت عباءة دخان هزيمة لم يعلن عنها بعد؟ كل هذه الأعراض تصنع لغتها, وتجعلنا ننتظر مالاينتظر, ونتأمل هذا الكائن الإنساني المتوحد والبديع, وهو يحاول أن يصف لنا مايفوق الوصف هو عنوان يستطيع أن يضللنا وأن يكون ملتبسا فالذي يفوق الوصف قد يفصح عن سعادة غامرة منتشية لايمكن صيدها واحتجازها في كلمات وقد يكون أسي متراكما وهما ضاغطا لاتصل اللغة الي بعض ملامحه وقسماته. وقد يكون هو هذه الإنسانة والمبدعة الرائعة نفسها, التي تعيد صياغة ذاتها في غمرة انشغالها بصياغة كونها ووجودها الضاغط المتشابك, والمترامي الأطراف أيا ما يكون الأمر فالذي بين ايدينا وسيبقي مشاعا ومتداولا بين الناس هو في جوهره كتابات موجعة وفاتنة قاسية وتمطر حنانا, شاردة وتحاول أن تجمع وتحتوي, لتصنع من البدد المتشظي, لوحة تنطلق وتبتسم في مرارة!