ليس من المستغرب أن يكره البريطانيون الأرقام فباستثناءات قليلة للغاية, لم يعودوا يسمعون إلا أرقام زيادات الضرائب, والديون المتوحشة, والعجز المالي المخيف وتراجع الدخول, تليها دعوات لشد الحزام مهما ضغطت علي البطون. وعندما طرحت الحكومة الائتلافية بقيادة حزب المحافظين ميزانية الطوارئ الجديدة فهم البريطانيون الرسالة بوضوح: حياة التقشف ستستمر خمس سنوات علي الأقل, مع وعد بأن يتبعها الفرج. هدف الحكومة, كما تقول, هو أن يساهم الجميع في حل أزمة البلد وسببها الرئيسي هو فجوة سوداء في الميزانية التي تعاني عجزا يبلغ160 مليار جنيه استرليني هو الفارق بين موارد الدولة ونفقاتها. أما وسيلتا سد الفجوة الوحيدتان فهما ضغط الإنفاق وميزانيات الوزارات والمؤسسات الحكومية والعامة, ثم زيادات الضرائب. وتعتمد حكومة كامرون/ كليج بنسبة77 في المائة علي الوسيلة الأولي وعلي الثانية بنسبة23 في المائة. ويحاول وزراء حكومة حزبي المحافظين والديمقراطيين الأحرار تبسيط الأزمة وأسبابها والمسئولين عنها للناس. ويقولون باختصار: بريطانيا مدينة وكل أربعة جنيهات استرلينية تنفقها, منها جنيه علي الأقل دين عليها وخلال خمس سنوات ستكون مطالبة بأن تدفع70 مليار جنيه استرليني فوائد للديون. اسباب ذلك هو الاستدانة المستمرة طوال ال13 عاما الماضية حتي أنه عندما تسلمت الحكومة الجديدة الخزينة كانت خاوية تماما, كما أن كل ما فعلته حكومة حزب العمال الأخيرة هي أنها تركت ورقة صغيرة تقول فيها إن الخزينة مدينة لكنها لم تكلف نفسها عناء حلول مقترحة. أما المسئولون فهم وزراء العمال الذين فشلوا في التنبوء ومواجهة الأزمة المالية والاقتصادية وضغط النفقات لوقف الاستدانة, ثم البنوك الكبري ومسئولوها التنفيذيون الذين تصرفوا بحمق وتهور وتقاضوا الملايين وكبدوا بنوكهم خسائر بالمليارات واضطرت الحكومة للتدخل لانقاذها بأموال دافعي الضرائب الذين يعانون تردي الخدمات وتدني مستوي المعيشة وجودتها. يقول جورج أوسبرن إنه قضي أكثر من شهر ونصف شهر يفكر في الحل فانتهي إلي أنه يجب أن يشارك الجميع بنصيب في حل أزمة البلد. ويعتقد أن الميزانية الطارئة المقترحة تحمل القادرين قدرا أكبر من الأعباء مقارنة بالفقراء. فالبنوك سوف تدفع ضرائب تبلغ ملياري جنيه استرليني سنويا, والوزارات سوف تضغط الإنفاق بنسبة25 في المائة لتتخلص من كل مصادر الإنفاق غير الضرورية. وبدأت الحكومة الحالية بنفسها, فخفضت رواتب وزرائها, بما في ذلك رئيس الوزراء ونائبه, بنسبة خمسة في المائة بالفعل. أما الفقراء والكادحون وقطاع كبير من الطبقة المتوسطة فسوف تخسر مساعدات تقدم منذ سنوات طويلة وتلعب دورا كبيرا في ميزانيات هؤلاء.. صارمة لكنها عادلة هكذا وصف أوسبرن وزملاؤه خطة التقشف التي سيطبق معظمها ابتداء من شهر يناير المقبل. غير أن المؤكد, وفق الأرقام, إنها صارمة لدرجة القسوة. لكل الحكم علي عدالتها يحتاج لبعض الوقت لحين بدء تدفق الأموال علي الخزانة ومن ثم بدء تقليل العجز. غير أن للقضية جانبها السياسي الذي يعود إلي التصور الذي طرحه المحافظون والديمقراطيون الأحرار للحكم والعقد الاجتماعي والسياسي بين الحكومة والشعب. فهم يرون ضرورة تقليل دور الدولة. أو كما قالوا سحب الصلاحيات من الدولة وإعادتها إلي الناس. يقول حزب العمال المعارض إن خطة التقشف المقترحة مدفوعة فأفكار أيديولوجية تتعلق برؤية المحافظين لدور الدولة. وتتهم هاربت هيرمان زعيمة الحزب بالإنابة المحافظين بأنهم يقلصون دور الدولة ويحملون الفئات الأكثر فقرا أعباء لا قبل لهم بها. وتلقي هذه الرؤية تأييد خبراء اقتصاديين يستندون إلي تفاصيل الميزانية الجديدة. فهم يقولون إنها تعطي للقطاع الخاص دورا متزايدا علي حساب دور القطاع العام الذي سوف تتقلص ميزانية مؤسساته وهيئاته بنسبة25 في المائة. ومن أبرز دلائل تراجع دور الدولة إعادة الهيكلة الشاملة لنظام الرعاية والرفاهية ومساعدات الدولة. وهذا ما بشر به المحافظون بوضوح خلال الحملة الانتخابية. ومن خلال الميزانية, بدا أن هناك صيغة جديدة الآن للعقد الاجتماعي بين الحكومة والشعب المحكوم. وأهم أسسها هو أنه إذا أراد الشعب أن يكون شريكا حقيقيا في اتخاذ القرار, فعليه أيضا أن يساعد الحكومة في مواجهة الأزمة الوطنية الحالية التي لا يجدي الآن البحث عن المسئولين عنها. وهذا أيضا هو البداية الجديدة والتغيير الشامل اللذان وعد بهما المحافظون وحلفاؤهم الديمقراطيين الأحزار من قبل. والظرف السياسي يساعدهم علي ذلك. فهناك, أولا, استياء واضح من سياسات حزب العمال والذي انعكس في رفض الناخبين تجديد تفوضيهم بالحكم بعد13 عاما. سياسيا, أيضا قرأ المحافظون تاريخهم في الحكم جيدا. وخلصوا إلي أن هذا هو انسب وقت لزيادة الضرائب والأعباء علي الناس. فالحكومة الحالية لم تقض في السلطة سوي شهرين تقريبا بعد الانتخابات الأخيرة, وحزب العمال المعارض الرئيسي مازال يتخبط ويعاني فوضي بسبب غياب الزعيم بعد استقالة جوردون براون ولن يكون بمقدوره حشد الرأي العام ضد الميزانية المقترحة. وأخيرا فإن من الحكمة أن يبدأ الناس معاناة من الآن وإلي أن يحل موعد الانتخابات المقبلة بعد الخمس سنوات يكونون قد اعتادوا وتعايشوا مع زيادات الضرائب والأعباء الحياتية. وهذا ما حدث مع مرجريت ثاتشر زعيمة المحافظين التاريخية التي ضاعفت ضريبة المجلس البلدي بعد شهور قليلة من فوزها بالانتخابات عام1979, كما حدث عندما رفعت حكومة جون ميجور الضرائب عموما بعد فوز حزب المحافظين بالانتخابات عام1992.