في نهاية مقالي الماضي محنة النخب السياسية الحاكمة والتي ألقيت فيها النظر علي النخب الفرنسية والإيطالية والأمريكية, أدركت أنه قد يتساءل البعض كما حدث بالفعل وماذا عن محنة النخب السياسية الحاكمة العربية ؟ وقد ورطت نفسي في الواقع, ووعدت القراء بتناول هذا الموضوع المعقد الزاخر بالأشواك الجارحة! وانصرف ذهني في البداية إلي تطبيق المنهج التاريخي لكي أتعرف علي الملامح الأساسية لتكون الدولة العربية, وسلوك النخب السياسية الحاكمة عبر العصور المختلفة, وبعيدا عن التفاصيل التي لا وجود لها عن الحكم العربي تاريخيا, فيمكن القول إن الاستبداد كان هو الملمح الأساسي له, مع ملاحظة أنه كان يتشكل بصورة متعددة حسب اختلاف العصور التاريخية وتنوع المجتمعات. ولعل هذا هو الذي جعل المؤرخين وعلماء الاجتماع السياسي الغربيين يصكون مصطلحا خاصا لوصف الأنظمة السياسية في بلاد الشرق التي يقع في دائرتها العالم العربي وهو الاستبداد الشرقيOrientaldespotism, باعتباره نوعا خاصا من أنواع الاستبداد, قد يختلف عن الاستبداد في العالم الغربي والذي ساد في عصور معينة. غير أنني حين قررت منهجيا أن أطبق المنهج التاريخي كنت أدرك أنه لا قيمة له إلا إذا وصلت الماضي بالحاضر, وتحدثت عن واقع النظم السياسية العربية اليوم, لكي نكتشف العناصر التي تسربت إليه من تراث الاستبداد القديم, والمحاولات المعاصرة للخروج من نفق الاستبداد المظلم إلي آفاق الديموقراطية المضيئة, ولذلك فكرت في أن أضع عنوانا لمقالي هو التاريخ الموروث والحاضر المتحول. غير أنني بعد أن احتشدت لكتابة المقال وصلني من بيروت العدد الجديد من مجلة المستقبل العربي ووجدت منشورا فيه تقريرا كاملا عن حلقة نقاشية انعقدت في مقر مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت في الثاني من نوفمبر عام2009 وكلفت بإدارة حوارها, وشاركت فيها نخبة متميزة من المفكرين والمثقفين والاساتذة العرب. كان موضوع الحلقة النقاشية أزمة الشرعية في النظام السياسي العربي وقدم ورقة العمل الأساسية الوحيدة الدكتور عبدالله بلقزيز المفكر العربي المعروف وأستاذ الفلسفة بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. والواقع أن هذه الورقة المتميزة استطاعت بعمق شديد أن تقدم تناولا شاملا لمشكلة الشرعية السياسية, سواء في الجانب النظري أو في الجانب التطبيقي في العالم العربي. فقد عرفت الورقة أولا مفهوم الشرعية السياسية وإعادة إنتاجها, ثم تحدثت عن ثلاثة أنواع من الشرعية وهي الشرعية التقليدية وهي التي تستند إلي مصادر دينية أو عصبوية غالبة.( قبلية, عشائرية, عائلية) وتستند إلي مبدأ الغلبة والاستيلاء. والشرعية الثورية, وهي تستند إلي رصيد المكتسبات الاجتماعية والسياسية التي أنجزتها نظم الدستورية وهي تستند نظريا إلي فكرة قيام السلطة علي مقتضي القانون الأساسي للدولة وتداولها بالانتخابات, بما في ذلك منصب رئيس الدولة. وكان منطقيا بعد ذلك أن يتطرق الدكتور بلقزيز إلي أزمة الشرعية السياسية. حين طالعت أعمال هذه الندوة والمناقشات الخصبة التي دارت فيها, أدركت أن مدخل أزمة الشرعية السياسية قد يكون هو الاقتراب المناسب للحديث عن محنة النخب السياسية العربية الحاكمة. ووجدت بعد مطالعتي لتدخلي في الحلقة النقاشية أنني وضعت يدي علي لب المشكلة, حين اعتمدت علي صياغة دقيقة قامت بها الباحثة مارينا أوتاوي في الكتاب الهام الذي أشرفت علي تحريره ونشر بعنوان ما يتعدي الواجهة والذي يتضمن دراسات حالات متميزة لدول عربية مختلفة, قامت بها نخبة من الباحثين العرب المرموقين. قالت مارينا أوتاوي في عبارة جامعة ما لم يحدث تحول في النموذج المعرفي السائد في العالم العربي وهو الاستئثار بالسلطة المطلقة. وينشأ نموذج معرفي جديد يعتمد علي توزيع السلطة فلن يحدث إصلاح سياسي في الوطن العربي. وقلت في نفسي ها نحن وضعنا أيدينا علي محنة النخب السياسية العربية الحاكمة والتي تتمثل في أنهم لا يقبلون إطلاقا التخلي عن الاستئثار بالسلطة المطلقة, ويرفضون مبدأ توزيع السلطة! والواقع أن هذه الصياغة للمشكلة وطريقة حلها في المستقبل لا تغني إطلاقا عن الدراسة التفصيلية لحالة كل بلد عربي علي حدة. وذلك أن الخصوصية السياسية إن صح التعبير قد لا تسمح بسهولة التعميم علي الوضع السياسي العربي ككل. والدليل علي ذلك أن النظام السياسي السعودي علي سبيل المثال له خصوصية متميزة مستمدة من التاريخ السعودي الفريد, وكذلك الحال بالنسبة للنظام السياسي الكويتي ولنلق نظرة بعد ذلك علي النظام السياسي المغربي والذي هو أيضا نظام ملكي, تجد فروقا واضحة بينه وبين النظام السعودي من جانب, والنظام الكويتي من جانب آخر. وإذا انتقلنا الي النظم السياسية الجمهورية سنجد فروقا واضحة بين النظام السياسي المصري والنظام السياسي التونسي السوري. غير أن ذلك لا يمنع بعد الدراسة التفصيلية من أن نصل الي مجموعة من التعميمات التي تصلح لوصف الملامح الأساسية للنظام السياسي العربي ككل. ولو عدت لقراءة ملف الحلقة النقاشية عن الشرعية السياسية والتي أشرت إليها في صدر المقال, سنجد آراء متميزة لعدد من المشاركين تستحق التأمل العميق. علي سبيل المثال أثار الفيلسوف المغربي المعروف علي أومليل فكرة هامة حين ذكر ان السؤال الجدير بالبحث ليس هو أزمة الشرعية السياسية, ولكن هو شرعية الدولة في الوقت الراهن لأن هذه الشرعية وخصوصا في عصر العولمة تعتمد الآن علي قدرة الدولة علي الصمود تجاه تحولات دولية كبيرة, تحولات في وسائل الاتصال الي الحد الذي لم تعد قادرة فيه علي مراقبة عقول مواطنيها, وهذا شأن مهم جدا, لأن هذه الأبواب المشرعة غيرت من صورة الدولة التي كانت عليها فيما سبق, قبل عشرين أو ثلاثين سنة, حيث كانت تستطيع أن تتحكم في حدودها, وفي قضائها, كما في عملتها, وفي حركة المال ورأس المال.. إلخ. والواقع ان الدكتور أومليل يشير بصورة بالغة الذكاء الي التحول الحضاري الكبير الذي يتمثل في الانتقال من نموذج المجتمع الصناعي الي نموذج مجتمع المعلومات العالمي. وذلك لأنه لأول مرة في تاريخ الانسانية ينشأ عن طريق شبكة الانترنت فضاء عام جديد, تتم فيه آلاف التفاعلات السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية بين أطراف لا حدود لها. بين دول, ودول, وبين مؤسسات متعددة للمجتمع المدني, وبين أفراد وأفراد, بل وبين ثقافات وثقافات أخري. وهذا التدفق المعلوماتي الهائل لا رقابة من الدولة عليه, ومن ناحية أخري في عصر العولمة والتي تقوم علي وحدة السوق العالمية وتدفق رؤوس الأموال, فإن حاجة الدولة الي استثمارات أجنبية دفعتها الي أن تقبل سياسة الاصلاح الهيكلي, بما أنهي نموذج دولة الرعاية والقبول بالحرية المطلقة للسوق والتركيز الشديد علي كفالة الاستقرار حتي يتاح للمستثمرين أن يشاركوا في الانتاج. وهذا الهاجس أدي بالدولة في نظر المواطنين الي الإحساس بأنها أصبحت دولة أمنية في المقام الأول لأن مهمتها الأولي هي ضمان الاستقرار. ومن ناحية أخري أضاف الفيلسوف اللبناني ناصيف نصار للمناقشة أبعادا جديدة. فقد تساءل هل يوجد حقا مايطلق عليه النظام السياسي العربي, أم أننا بصدد عدة أنظمة سياسية عربية. وتتفق هذه الملاحظة مع ماذكرناه من قبل عن الخصوصية الثقافية للنظم السياسية العربية. ويقرر أننا في الواقع لسنا بصدد التساؤل عن القوة الشرعية للنظم, بل إننا أمام ظاهرة شرعية القوة ويشير الي نظريات ابن خلدون عن العصبية, والي اجتهادات محمد عابد الجابري عن أن العقل السياسي العربي يقوم علي ثلاثية هي العقيدة والقبيلة والغنيمة. وفي تقديره أن القبيلة بالمعني الواسع الكلمة هي المحرك الأساسي في الوطن العربي, وهي قد تأخذ شكل الطائفة أحيانا أو العائلات الكبيرة أحيانا أخري, أو الجماعات السياسية المحترفة( الشلل التي تحترف الحكم). هذا هو التوصيف الدقيق للواقع السياسي العربي كما يراه ناصيف نصار. غير أنه يري في الخلفية الحقيقية لموضوع الشرعية مسألة العدل, لأن الشرعية هي جزء من منظومة العدل, وهي شيء مشتق من مبدأ العدل. وخلاصة رأيه أنه ينبغي تجاوز التعريف التقليدي للشرعية بأنها تعبر عن قبول المواطنين ورضائهم عن السلطة, لكي نتحدث عن مفهوم التفويض بمعني أنه في الشرعية الديمقراطية لا شرعية لحاكم إن لم تكن منبثقة عن تفويض يأتي من القاعدة أي من الشعب, كما أن فكرة العدل السياسي هي التي تؤسس الشرعية وهي التي تعبر عنها اليوم منظومة حقوق الانسان التي أصبحت كونية.