نحن جزء من عالم صار اكثر تداخلا في بعضه, حتي خطوط التماس انزاحت إلي داخل الحدود, لتؤثر دول وتتأثر ببعضها البعض وهو تطور بدأ منذ بدأت العولمة, ودخولنا جميعا عصر ثورة المعلومات. وكانت الاستراتيجية الجديدة للأمن القومي لعهد أوباما, والتي أعلنت في أواخر مايو2010, والتي تعبر عن توجه مغاير في الفكر السياسي, هي نتاج الوعي بهذا العالم المختلف. وهي استراتيجية شرحت خطوطها هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية, عن ضرورات الأخذ بما اسمته القوة الذكية, التي تجمع بين القوة المادة والقوة الناعمة, بمكوناتها الثقافية والإبداعية, التي تنهل من مخزون الدولة من العقول. استراتيجية أوباما تعيد التأكيد علي معالم الفكر السياسي لعهده, والتي كان قد طرحها متفرقة في أكثر من مناسبة, ومن أهمها: ان العالم مقبل علي تعددية القوي الدولية التي سيناط بها ادارة النظام الدولي وأن أمريكا تحتاج شركاء لديهم أدوات وآليات المشاركة معها في التعامل مع المشاكل والتحديات التي تواجه العالم ومناطقه الاقليمية. ومن قبل أمريكا كانت الدول التي جهزت نفسها بآليات الشركاء, هي التي استوعبت شروط العضوية علي قمة النظام العالمي القادم. فالصين مثلا بدأت تجربتها للتنمية مستندة إلي مكونات القوة المادية وحدها اقتصادية وعلمية ودبلوماسية إلي أن اكتشفت أن المحافظة علي استمرارية تقدمها الاقتصادي يحتاج ادخال وسائل القوة الناعمة, فبدأت تأخذ بها, واحتواهما معا مفهوم القوة الذكية, وظهر ذلك في تجربة الهند التي صاغت اولا مشروعها القومي للنهضة الاقتصادية التنافسية, ثم استكملته بمشروع بعث الهوية الثقافية الوطنية من خلال برامج النهوض بالتعليم, والثقافة, والفنون. ان المشروع القومي في طوره المعاصر, هو ملاحقة لعالم يتغير باعادة صياغة أهداف الأمة, وبادخال كافة القوي الوطنية في نسيجه. وحسب تعريف علم السياسة, فإن المشروع القومي, هو صحوة وطنية في ظروف معينة, لتحقيق أهداف تنهض بها: اما حق الاحتلال للاستقلال, أو من الظلم للعدل, أو من التخلف والجهل للتنوير, أو من الركود للازدهار, أو من الحكم الشمولي لاسترجاع حق المواطن في التعبير الحر. وغير ذلك من الأهداف. أو هي كلها مجتمعة, حسب ظروف وطبيعة الفترة الزمنية التي يطلق فيها المشروع, ودرجة الحاح الأولويات القومية, والتفاف جموع الجماهير حولها. أي ان المشروع القومي باختصار هو نهضة قومية شاملة. وللمشروع القومي شروط لا يتحقق في غيابها, وإلا تعثر في أول الطريق. وهي انه يستمد وجوده من روح الجماعة, والتي تعني تجميع مختلف التيارات السياسية والرؤي والتصورات. ولا تقوم قائمة لأي نهضة, اذا لم يتح لها جميعا التعايش, والاحتكاك, ومنازلة الحجة بالحجة, وإلا اختنقت روح الجماعة. وان الدولة هي مجال تطبيق المشروع القومي, فهي وعاء العملية السياسية, واذا تقطعت السبل بين أجزاء الوعاء وهي الدولة وجماهير الأمة, تعطلت فعالية كل الأجزاء. واذا تتبعنا المراحل التاريخية التي شهدت تجارب اطلاق المشروع القومي في مصر, نجد ان محمد علي استلهم مشروعه للنهضة كما يقول المؤرخون من حركة اجتماعية تتفاعل بين المصريين, من أجل الاستقلال الوطني, والتقدم, وهي حركة تولدت اثر صدمة الحملة الفرنسية علي مصر بقيادة نابليون عام1798, بما جلبته من وسائل الحضارة والتقدم. وذلك بصرف النظر عن طموحات محمد علي في بناء مجده الشخصي. وكان ذلك ما حدث في ثورة أحمد عرابي عام1882, ومشروع مصطفي كامل في اول القرن العشرين, لايقاظ الوعي الوطني لدي المصريين, من تأثيرات الخطة الانجليزية لاحداث انكسار نفسي في الروح المصرية بعد هزيمة عرابي عام1882. ثم أحداث ثورة19, وحالة الحراك السياسي والاجتماعي والفكري في مصر في الأربعينات وحتي1952. وكذلك في تجربة ثورة يوليو. والتي سبقت ظهورها, حركة مجتمع يتفاعل مع تيارات سياسية واجتماعية وثقافية طرحت رؤوسا ومطالب. فأخذ عبدالناصر من هذه الحركة المجتمعية. وبني عليها مشروعه القومي, وهو ما خلق الترحيب الجماهيري بالثورة في يوليو52 إلي أن دخل النظام في كهف التنظيم السياسي الواحد, الذي لا يقبل منافسا, أو صاحب رأي مخالف, أو تصورات اجتماعية عكس ما يراه. وهو ما بدد طاقة روح الجماعة. المشروع القومي إذن له شروط وقواعد, لا يتاح له ان يتحقق في غيابها, وإلا تحول إلي تجارب مقطوعة النفس. ومتعثرة الخطي, لا تطول هدفا حتي ولو كان علي مرمي البصر منها. فما بالنا والعالم لم يعد هو ما كان في الماضي. وبعد ان صار الاستلهام من مخزون العقول المتنوع الرؤية والبصيرة, ضرورة حيوية.