التاريخ لا يتغير, لكن الفكر السياسي في إطار الحقب التاريخية المتتالية, قابل للتغير والتطور. وفي حياتنا السياسية لحظة من التاريخ عمرها128 عاما, جرت عند بدء الاحتلال البريطاني لمصر عام1882, يومها تلقي الخديو توفيق نصيحة من اللورد دوفرين السفير البريطاني في استنبول, والمعتمد في مصر أيضا, وكانت النصيحة هي: عدم العودة إلي الحياة النيابية, ونبذ فكرة الديمقراطية. وبرر نصيحته بأن بيئة هذه المنطقة لا تصلح أصلا لتنبت فيها الحرية. لم يكن المقصود بالنصيحة, شكل النظام السياسي في حد ذاته, بل ما ستجلبه الحياة النيابية, والديمقراطية, من صحوة وطنية, وبعث الشعور بالكرامة الوطنية, والرغبة في الخلاص من الاحتلال, وسيطرة المصريين علي مصير بلادهم. كان ماثلا أمام عيني اللورد دوفرين ما جري أثناء ثورة عرابي, من رفع مطالب وطنية جوهرها الأساسي الديمقراطية, الي أن انتكست بهزيمة عرابي, واخضاع مصر للاحتلال. ولم يكن ذلك غائبا عن بريطانيا, وهو ما تحدث عنه قبلها بخمس سنوات, الكاتب البريطانيJ.C.MCCOAN في كتابه الصادر عام1877 بعنوانEgyptasitis بقوله: ان الدعوة التي ظهرت تحت اسم مصر للمصريين هي بلا جدال مؤشر علي صحوة وأماني وطنية. وكان هناك اتفاق بين المؤرخين البريطانيين علي أن التطور الاجتماعي في مصر في العقد السابع من القرن التاسع عشر, قد أدي إلي ظهور تيار لديه وعي كبير بالهوية الوطنية, ورغبة جارفة في أن يكون المصريون هم سادة بلدهم. وعلي طول السنين اللاحقة, لم يغب عن الحركة الوطنية المطالبة بالاستقلال, انشغال بالديمقراطية, التي تطور الاهتمام بها منذ نشأة الاحزاب في مصر عام1907, وما شهدته مصر من أحداث أبرزها ثورة19 وكانت حركة شعبية في الأساس وصدور دستور1923, وإلغاؤه ليحل محله دستور1930, ثم رفض المصريين في تحرك عام في كافة مدن وقري مصر لهذا الدستور, والغاؤه عام1935 والعودة الي دستور23, ثم الصحوة السياسية والاجتماعية, والثقافية, المزدهرة منذ ذلك التاريخ وطوال الاربعينيات وحتي عام1952. الي أن دخل العالم حقبة تاريخية جديدة, بدأ الفكر السياسي في أثنائها يتأثر بانتهاء الصراع الامريكي السوفيتي, وعصر العولمة وثورة المعلومات. وهو ما أدخل تغييرا جوهريا علي فكرة الديمقراطية, ووسع من محتواها, لتناسب عالما جديدا تداخلت فيه في بعضها الرؤية الاستراتيجية لقضايا الداخل والخارج. وهو تطور استوعبته دول كانت صغيرة ومهمشة أغلبها في آسيا. وكان من أبرز مظاهر هذا التغير: (1) حدوث تداخل بين الديمقراطية, وبين التقدم الاقتصادي, والأمن القومي. ففي السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين كان قد استقر في الفكر السياسي في العالم, أن القدرة الاقتصادية التنافسية, قد صعدت الي قمة مكونات الأمن القومي للدولة. وان المدخل الي هذه القدرة الاقتصادية, يبدأ بالأخذ بالديمقراطية. فهي التي تضمن وضع الشخص الأقدر علي قمة المسئولية في القطاعات المنوط بها المشاركة في النهوض والتقدم, ومتابعة خطة التنمية كمشروع قومي, من خلال آليات الديمقراطية, ودولة القانون. فضلا عما يقتضيه بلوغ هدف التنافسية, من قفزة خلاقة في التعليم, وهو أمر يحتاج إلي أصحاب فكر ورؤية, وليس قدرات تنفيذية ومراعاة تغليب المصلحة العليا, علي مقتضيات المصلحة الخاصة في اختيار وتنفيذ المشروعات المنتجة زراعيا وصناعيا. انتقال خط المواجهة من وراء الحدود الي داخل الدولة, نتيجة تغير مفهوم الامن القومي, للقوي الكبري, ونظرتها المتغيرة الي أمنها القومي. لتري اتساع مساحته وتمددها الي داخل دول أخري, وهو ما يجعله يتأثر بأوضاع داخل دول ذات سيادة. وهو تطور لا يخلو من أطماع داخل هذه الدول الأخري, تراعي فيها مصالحها أولا. وهذا امر يرجع أساسا الي الديمقراطية. لأن خط المواجهة في الداخل يقوي ويتحصن بالممارسة السياسية, بما يعزز نزعة الانتماء, وليصبح كل مواطن بمثابة نقطة دفاع علي امتداد الجانب الوطني من خط المواجهة, وليس مجرد واقف علي خط اللامبالاة. .. المفاهيم السياسية تغيرت..الديمقراطية والأمن القومي, وقدرة الدولة ومكانتها ونفوذها والحياة اليومية للمواطن. وكلها قد انزاحت بينها الفواصل, وتشابكت في بعضها, وصارت كل منها تؤثر في الأخري وتتأثر بها. ولم تعد الديمقراطية في إطار هذه التغيرات, مجرد أفكار لنظام سياسي, لكنها صارت متصلة مباشرة بالكرامة الوطنية, والأمان الداخلي, وفرص التوظف, والقدرة علي تكوين أسرة, وجودة التعليم, والارتقاء بالبشر, بل وان تكون الاسعار محتملة ومنضبطة, والحياة المعيشية ليست مستعصية.