عندما يطلع القارئ علي هذه السطور أكون في طريقي إلي مدينة أسوان للقاء مع عدد من شباب مصر من مختلف المحافظات وللحديث معهم عن السد العالي, ففي مثل هذا اليوم. من نصف قرن-9 يناير1960- وضع الرئيس جمال عبد الناصر حجر الأساس في بناء السد العالي وأستمر العمل حتي أفتتاحه في15 يناير..1971 فماذا نقول لشبابنا اليوم عن السد العالي؟ نقول لهم إن بناء السد العالي جاء تتويجا لسلسلة من المواجهات بين الثورة المصرية والقوي الكبري كان من أهم معالمها سعي مصر لشراء السلاح ودعم الجيش لمواجهة المطامع الإسرائيلية في عامي54 1955 ورفض البنك الدولي والقوي الغربية تمويل مشروع بناء السد العالي وتأميم شركة قناة السويس والعدوان الثلاثي علي مصر بمشاركة إنجلترا وفرنسا وإسرائيل عام1956, وأن السد العالي هو رمز لمعنيين رئيسيين في تطور النضال المصري هما: السعي إلي التنمية والحفاظ علي الاستقلال الوطني. أما السعي إلي التنمية فهو هدف مصري تعود جذوره في العصر الحديث إلي محاولة محمد علي باشا الجسورة في بداية القرن التاسع عشر لبناء مصر كقوة صناعية وعسكرية وسياسية وأنتهت بتحالف القوي الغربية مع الدولة العثمانية وضرب هذه المحاولة وفرض إتفاقية1848 التي كان من شروطها تخفيض عدد الجيش المصري إلي18 ألف فرد ووقف الصناعة المصرية. وفي النصف الأول من القرن العشرين بدأت محاولة أخري علي يد طلعت حرب والرأسمالية المصرية هدفت إلي إقامة اقتصاد وطني حديث يقوم علي جهود المصريين ومرة أخري ضربت هذه التجربة. وجاءت المحاولة الثالثة بعد1952 في عهد الرئيس عبد الناصر والسعي إلي التنمية من خلال بناء الصناعة وتبني سياسة إحلال الواردات ومن خلال ملكية الدولة لأدوات الإنتاج وهو النمط التنموي الذي ساد في عديد من الدول في حقبتي الخمسينات والستينات. وفي هذا السياق, برز مشروع السد العالي كرمز للتنمية والذي هدف إلي تحويل مجري نهر النيل وإيجاد أكبر بحيرة صناعية في العالم تسمح بتخزين مياه فيضان النيل والتصرف فيها بشكل تدريجي خلال شهور السنة مما يسمح باستصلاح المزيد من الأراضي وكذا بانشاء محطة توليد كهرباء توفر الطاقة اللازمة للصناعة. وعندما رفضت القوي الغربية تمويل المشروع بشكل مهين تضمن تشكيكا في قدرة الاقتصاد المصري علي تحمل أعباء هذا المشروع تحول السد العالي من مشروع هندسي وتنموي إلي رمز سياسي ووطني وتبلورت إرادة شعبية مصرية لبناء السد وأصبح السد رمزا للطموح المصري في التنمية. أما المعني الثاني الذي يجسده السد فهو الاستقلال الوطني وحرية القرار المصري وهو أيضا معني تاريخي يرتبط بحلم المصريين في العصر الحديث من عهد محمد علي وحتي الآن حيث يدور الصراع بين الرغبة المصرية في ممارسة الاستقلال وحرية القرار خارجيا وبين القوي الكبري التي ترغب في إدراج مصر ضمن مخططاتها الدولية. ويسجل التاريخ أن رؤساء الدولة في مصر أيا كان الاختلاف معهم في هذه السياسة أو تلك حرصوا علي استقلال مصر حتي عندما عملوا في ظروف صعبة وكانت موازين القوي في غير صالح بلادهم. وعلي سبيل المثال, فقد رفضت مصر إعلان الحرب علي دول المحور( المانيا النازية وإيطاليا الفاشية) إبان الحرب العالمية الثانية ولم تقم الحكومة المصرية بذلك برغم أن مصر كانت محتلة بالقوات الإنجليزية حتي قرب نهاية الحرب وإعلان الحلفاء عن عدم سماحهم للدول التي لم تعلن الحرب رسميا علي المحور بالمشاركة في مؤتمر سان فرانسيسكو وهو المؤتمر الذي تمت الدعوة إليه لبحث إنشاء الأممالمتحدة. ووقتها كان التعبير السائد في مصر أنها حرب'لا ناقة لنا فيها ولا جمل'. بل وسجل التاريخ أن الملك فاروق سعي للإتصال بإيطاليا وألمانيا لكسب تعاطفهما مع القضية المصرية ضد الإحتلال الإنجليزي. ونفس الموقف المستقل إتخذته الحكومة المصرية عام1950 تجاه مشروعات الدفاع عن الشرق الأوسط التي تبنتها القوي الغربية الكبري. وبعد ثورة1952 تبلور هذا التوجه تحت إسم الحياد الإيجابي ثم عدم الإنحياز وكان أهم معالم هذا التوجه حضور عبد الناصر مؤتمر باندونج أبريل1955 ورفض المشاركة في حلف بغداد وصفقة الأسلحة السوفييتية( أعلن عنها وقتذاك علي أنها صفقة تشيكية وذلك لتخفيف الوقع علي الدول الغربية) في نفس العام وأعترافها في يناير1956 بدولة الصين الشعبية وكانت مصر أول دولة عربية وإفريقية تقوم بذلك. ووضعت تلك الأحداث القاهرة في مواجهة صريحة ومباشرة مع القوي الإستعمارية التي سعت لإقامة أحلاف عسكرية لمحاصرة الإتحاد السوفييتي كجزء من الحرب الباردة وقتذاك. وفي هذا السياق أيضا كان السد العالي رمزا لممارسة الإستقلال الوطني وحرية القرار المصري خارجيا وللتنمية الوطنية المستقلة. ولابد من ربط الماضي بالحاضر وأن نقول للشباب أيضا أن هذا الصراع بشأن التنمية والاستقلال الوطني مازال قائما وإن كان يحدث في سياق عالمي مختلف وبأساليب جديدة. فالقوي الكبري مازالت تسعي إلي فرض آرائها وتوجهاتها تحت إسم العولمة والإنخراط في النظام العالمي الجديد ومن خلال طرح أجندات وجداول أعمال- للأسف يسايرها البعض منا دون تدقيق أو تمحيص هدفها تطويع الإرادة الوطنية المصرية. وسوف يذكر التاريخ للرئيس حسني مبارك أنه أدار دفة السياسة المصرية في العقود الثلاثة الأخيرة في ظروف صعبة للغاية ولكنه لم يفقد أبدا بوصلة الاستقلال الوطني. ولهذا حديث آخر ولكن يكفي الإشارة إلي أنه في المجال الاقتصادي فإن الغالبية العظمي من الاستثمارات علي أرض مصر هي استثمارات مصرية, وفي المجال السياسي إلي رفض مبارك المستمر والعنيد لكل مقترحات إقامة قواعد عسكرية علي الآراضي المصرية حتي عندما تخفت وراء أسماء دبلوماسية مثل التسهيلات وبعثات التدريب والفنيين وأنه رفض مسايرة الولاياتالمتحدة في سياستها الخاصة بالحرب العالمية ضد الإرهاب. ونقول لشبابنا في هذا اليوم إنهم ينتمون إلي شعب عزيز وإلي أمة كريمة وإن الأجيال السابقة حملت شعلة التنمية والاستقلال الوطني, وإن عليهم الاستمرار في هذه المسيرة التي تمثل الحلم المصري, فبدون تنمية لا يوجد زيادة للثروة الوطنية أوعدل اجتماعي أو أستقرار سياسي وبدون الاستقلال الوطني يصبح أمن الوطن مهددا ومصالح الأمن الوطني مستباحة.