لا تزال جدارية النحت البارز فوق واجهة مبني مجمع المحاكم بشارع الجلاء بالقاهرة تطل من عليائها علي الجمهور كل يوم منذ عشرات السنين, في شكل سيدة معصوبة العينين تمسك بميزان متكافيء الكفتين رمزا للعدالة. ولا تزال لوحة الرسم الجدارية الهائلة بألوان الفريسك في بهو المبني نفسه تستعرض مواقف الحكم بالعدل بين الناس عبر التاريخ, يمر عليها كل يوم عشرات القضاة والمحامين, ولعلهم جميعا قد نسوا وجودها من فرط تعودهم عليها, وكأنهم صاروا معصوبي الأعين مثل رمز العدالة... لكن شتان بين هذا المعني وبين ما نراه اليوم من صراع بين شقي العدالة وهما القضاء الجالس والقضاء الواقف, فإذا كان الرمز للعدالة بسيدة معصوبة العينين يعني الإقصاء المطلق لأية نوازع شخصية وراء الأحكام من أجل العدل, فإن ما نشهده اليوم يعني الإعلان المطلق للنوازع الشخصية والفئوية لرجال القانون, ولو كان ذلك علي حساب ما كلفوا بتحقيقه.. غير ان هذا الموقف الغريب لم يعد استثناء في واقعنا, إذ أننا نجد كل يوم ما يشبهه من صور الاحتقان والصراع وإعلاء المصالح الشخصية علي مصالح الوطن, أو من صور انتهاك الحقوق الكبيرة للمجتمع بدم بارد علي أيدي أشخاص أو جهات أعمتها المطامع, ما يمثل ظاهرة عامة منعكسة عن مناخ يكتسح البلاد, وهو يحمل من عوامل التفجير والتجزئة للنسيج الوطني والمجتمعي أكثر من عوامل الالتئام والتوحد, فإن سوء الظنون والنوايا تسبق حسنها, إنك تجد هذا المناخ في القضايا العمالية كما تجده في القضايا الفئوية وحتي في القضايا المرفوعة ضد مثقفين ومبدعين.. في البداية كان الأمر يبدو وليد اهتزاز الثقة من جانب تلك الأطراف في بعض الأجهزة الحكومية مرتبطا بأزمات نوعية للفئات المختلفة تتمثل في ضياع حقوقها وعدم الاهتمام بمطالبها, وغالبا ما يكون لنظرية المؤامرة دور فاعل في تغذية وتوجيه هذا المناخ, بافتراض وجود تدبير مسبق ومخطط وراء كل أزمة. في السنوات الأخيرة انتقل هذا المناخ ليصيب علاقات الأفراد من جميع الفئات الاجتماعية والمهنية ببعضهم البعض, مرتبطا بحالة من التربص وسوء الظن في المعاملات والمواقف الاجتماعية, وكاشفا عن تآكل روح التسامح بين المصريين, التي كانت في الماضي تتيح الفرصة لتغليب الاعتبارات الأسرية, فتخلخلت العلاقات حتي بين أقرب الأقرياء, ما انعكس بالتالي في تضاعف أعداد القضايا المنظورة أمام القضاء باعتباره الملاذ الأخير للمظلومين, والمناصر النزيه للحقيقة والحق. لكن الأحداث الأخيرة في ساحات العدالة زلزلت اعمدة هذا الحصن بعد ان ظل علي مدي اكثر من قرن من الزمان شامخا ينأي عن أية صراعات أو اهتزازات إلا ما تمليه مصالح الوطن ودواعي الحق والعدل, أو ما تفرضه عليها بعض الجهات السلطوية من عدوان, وكانت العلاقات المهنية بل والانسانية بين الجانبين تتنزه عن أية دوافع شخصية أو فئوية, بل كانت تشهد تكاملا تمليه الزمالة قبل ان يفرضه القانون, وفجأة رأينا الفيروس الخبيث في المناخ السائد الذي أشرت إليه ينتقل إلي حراس الحصن ويهدد بتصدعه, حتي وصل الأمر إلي صدور حكم بسجن اثنين من المحامين بطنطا, ثم إلي إعلان نقابة المحامين الإضراب العام عن الوقوف أمام منصات القضاء! ووقف الشعب مبهوتا أمام ما يجري, وهو لا يستطيع أن يحدد إلي أي جانب يقف, وكيف يستطيع ذلك وأحشاؤه مفتوحة بين الطرفين من خلال آلاف القضايا التي حكم عليها بالتجمد حتي تنتهي الأزمة, فوق ما عانته من انتظار وتجميد في اضابير المحاكم خلال شهور وسنوات سابقة؟.. وإذا كانت مؤسسة القضاء بوجوهها الثلاثة التي يمثلها القاضي والمحامي ووكيل النيابة تعد ضمير المجتمع الذي يرسي سيادة القانون في جميع المنازعات, فكيف نواجه ما يصيب هذا الضمير من تصدع؟.. وإلي من نلجأ إلي حين انتهاء أزمته؟ ولنا أن نتخيل مواطنا سلب منه حقه, أو موظفا أوقف عن أداء وظيفته, أو مجنيا عليه في اعتداء كان يتطلب قرارا عاجلا بالبحث عن الجناة أو توقيع الكشف الطبي عليه قبل زوال أثر الاعتداء, أو متهما قبض عليه في مظاهرة حقوقية يتطلع إلي جلسة عاجلة لتحكم بالإفراج عنه.. هؤلاء جميعا يفاجأون بإيقاف عجلة الزمن ليبقي حال كل منهم علي ما هو عليه حتي تنقشع الغمة بين القضاء الجالس والقضاء الواقف! ان رجال القضاء بشقيه كانوا حتي وقت قريب جدا فرسان المعارك الديمقراطية, ولا ننسي وقفاتهم الاحتجاجية علي مرأي من العالم أجمع ضد أوضاع تمس الحريات والمصالح الوطنية, أو مطالبين بمزيد من الحرية والديمقراطية, ضاربين أروع الأمثلة في الشجاعة والمواجهة حتي المخاطرة, لهذا استحقوا وقوف فصائل الشعب إلي جانبهم مؤيدة, وهم في النهاية بعض من فصائل المثقفين, الذين اجتازوا السور التقليدي بين المثقف والسياسة, ليس بمعني الاشتغال بها احترافا, بل بمعني الانتقال من موقف القول إلي موقف الفعل من أجل التغيير, وبهذا الاجتياز الجسور كانوا يضعون بداية الحل لأزمة المثقفين, وهو تجاوز الشأن الخاص إلي الشأن العام, والإيمان بأن قدرهم ان يكونوا طليعة لقوي التنوير والتغيير. فماذا حدث حتي تم اختراقهم واستغراقهم في الشأن الخاص, فيما ينتفض جسد الأمة رغبة في التغيير, وتنفض قوي عديدة عن نفسها قوقعة السلبية, وتعلن صحوتها وإصرارها علي المشاركة في الحراك السياسي والوطني؟.. أيكون ذلك احد مظاهر ثقافة الزحام التي نعاني من أعراضها, وتتمثل في التدافع بالمناكب والأذرع والأقدام للسبق من أجل الحصول علي الفرص الشحيحة المتاحة, في مناخ اختلت فيه معايير القيم والحق وحلت محلها معايير النفوذ والسطوة والفهلوة؟.. أيكون ذلك أحد مظاهر اليأس من الإصلاح أو من توافق الجماعة الوطنية علي مشروع عام للتغيير والنهضة, في ظل سيطرة الأنوية والأنامالية اللتين اصبحتا رائدتين للجميع؟.. أم هو انفجار مفاجيء في صدور أبناء المهنة نتيجة ضغوط متراكمة طال أمدها وافتقدوا بسببها العدل لأنفسهم فيما يسعون لتحقيقه للآخرين؟ لكن أيا ما كانت الأسباب فإن ما ينبغي أن ندركه الآن هو إطفاء هذا الحريق قبل أن يلتهم الجميع, وهو رأب الصدع وانتزاع فتيل الفتنة من أيدي من ينفخ فيها, مؤكدين كامل الاحترام لكل ممثلي العدالة: قضاة ومحامين ورجال نيابة, فبدونهم متضافرين كالحبل المشدود لا أمل في إحقاق الحق وإرساء العدل, ولن يتحقق ذلك إلا بتمثلهم للمعني الصحيح لرمز العدالة معصوبة العينين عن النوازع الشخصية.