في قلب الاحباط العربي السائد جاء كتاب المفكر اللبناني الأستاذ كريم مروة نحو نهضة جديدة لليسار في العالم العربي أستاذ الفلسفة بجامعة حلوان والعنوان يحتضن الهم العربي من المحيط الي الخليج, ويبدو هذا الإلمام للواقع العربي أمرا بديهيا لاتحتاج مشروعيته الي تبرير, فقد بدأ اليسار في فكرنا المعاصر عربيا في منطلقاته وفي آليات عمله وفيما نتج عنه من آثار, وهكذا أيضا عليه أن يعاود المسير, جاء اسلوب كريم مروة في الكتاب هادئا وحميميا بصورة قد تبدو متنافرة مع كلمة اليسار الموجودة علي غلاف الكتاب. فلقد تعودنا أن نقرأ حينما تأتي في عنوان كلمة يسار أما كتابة تنديدية بالانتهاكات والمظالم, وإما كتابة استنفارية آمرة عن المهام العاجلة الواجب إنجازها بلا هواده أو تأخير, وفي كلتا الحالتين سواء من الغضب أو من الحماس تغيب الحكمة. والحكمة ليست حلولا فنية لمشكلات عملية ولانظريات دقيقة لتفسير الظواهر, أي أنها ليست تكنولوجيا وعلما, ولكنها دائما هي الانشغال بالمصير. من هنا تأتي الروح التي يبثها اسلوب كريم مروة والتي تفسح مجالا كبيرا للتروي والتأمل. ولكن ذلك لايعني أن القضايا المطروحة غير ملحة, فالكتاب مهموم بآلام الانسان وأحلامه, وبالواقع البائس للمواطن العربي وامكانيات تغييره. إننا بالفعل إزاء قضايا ملحة, ولكنه نوع جديد من الالحاح, فالأمر لايتعلق بخطأ يمكن اصلاحه عن طريق اتخاذ إجراء معين, وانما هو الحاح يمكن أن تنطبق عليه تلك العبارة التي اختتم بها جاك دريدا احدي مقالاته الأمر خطير ويحتاج لتأمل عميق وطويل, خذوا وقتكم ولكن عليكم أن تنجزوا ذلك سريعا. لقد انطلق كريم مروة من خبرة طويلة في صفوف اليسار العربي والدولي, ومن رصد لتحولات العالم يملؤه الرغبة في الفهم والاستجابة, وكشف حساب لواقعنا العربي ووضع المواطنين فيه تملؤه الحسرة والألم. أول ملامح المشهد العالمي, هي تلك الأزمة التي يعيشها اليسار في العالم بعد انهيار التجربة السوفيتية, ويقتضي الخروج منها تقديم قراءة نقدية نجد ملامح لها في كتابه, حيث يدعو الي التخلي عن الشمولية في الحكم ونبذ العنف حتي ولو كان ثوريا وتوسيع جمهور اليسار وعدم الاقتصار علي الطبقة العاملة. أما الآمال الكبري عن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والحرية فقد أودعها في منطقة الأحلام حتي يستطيع اليسار تبني سياسة واقعية ملائمة, ويرصد مروة تحولات العالم المعاصر بشكل مختلف, طالبا من اليسار ألا يستعجل الحكم علي نهاية الرأسمالية بسبب الأزمة المالية أو التقييم السلبي للعولمة بسبب توحش رأس المال المعولم, ويري أن جزءا من الاضطرابات ينشأ بسبب التناقض بين تقدم العلم والصناعة وبين قصور الوعي البشري, وأن رأس المال المعولم يسير في اتجاه موضوعي يقود الي وحدة العالم والتي يقتضي الاقرار بها أن يخرج المغلقون علي هوياتهم القديمة من الأسر الذي يضعون أنفسهم فيه ويدخلوا العصر من أبوابه الواسعة. أما فيما يخص المنطقة العربية فيقدم مروة نقدا مهما لتجربة اليسار فيها, فاليسار العربي تقاعس عن استكمال الجهد الذي قدمه مفكرو النهضة الأولي في القرن التاسع عشر في إرساء دعائم الديمقراطية والتقدم, وبالفعل لو نظرنا الي قضايا مثل حرية المرأة أو نقد الثقافة التراثية نجد رصيد اليسار فيها قليلا, لأنه افترض أن حل المشكلة الاجتماعية سوف يحل تلقائيا باقي المشكلات, بل إن ممارسة اليسار العربي اقامت معوقات في طريق التقدم, من وجهة نظر كريم مروة, بتحالفه مع الاتجاهات القومية التي وصلت الي الحكم عبر الانقلابات العسكرية وانشأت أنظمة استبداد معطلة لعملية التقدم في بلادنا. ويطرح مروة سؤالا مهما: ماذا يعني أن يعرف في أيامنا مواطن عربي نفسه بأنه يساري؟ الاجابة ببساطة هي أن يعلن انحيازه لقضية التغيير الديمقراطي في بلادنا, وهو مايعني ضرورة توسيع القاعدة الاجتماعية لجمهور اليسار, والتعايش مع حركة يمينية قوية لضمان تداول السلطة, ورد الاعتبار للسياسة بتخليصها من النفاق والخداع والتزوير والشعبوية, إن أوضاع العالم العربي تطرح الكثير من القضايا التي يمكن أن تكون منطلقات لبرنامج اليسار, أول هذه المهام هو بناء الدولة الديمقراطية الحديثة أي دولة الحق والقانون, والتي لكي تكون ديمقراطية ينبغي أن تكون علمانية يتم الفصل في كل مؤسساتها بين الديني والسياسي بما في ذلك الأحوال الشخصية, هذا الفصل سوف يؤدي الي تحرير الدولة من الاستخدام السييء للدين وتحرير الدين من قبل أصحاب المصالح الذين يقحمونه فيما ليس من وظائفه. وينبغي علي اليسار أن يكون أكثر القوي السياسية مراعاة لما يحدث في العالم من تحولات, وذلك يجعل من قضية البيئة والبحث عن تنمية ملائمة وعدم اهدار الموارد الطبيعية موضوعات اساسية في برنامجه, الي جانب الموضوعات التقليدية والتي للأسف رصيد العالم العربي فيها قليل, مثل حقوق المواطنين والضمانات الاجتماعية والصحية التي يجب أن تشمل الجميع وحقوق المرأة والاهتمام بالشباب, وفيما يخص القضية الفلسطينية ويؤكد مروة أهميتها لليسار العربي ولكنه يدعو اليسار الي نقد اساليب النظم الحاكمة في مصادرة حقوق المواطنين باسم القضية الفلسطينية والي تحرير القرار الفلسطيني من تسلط الحكومات العربية والاقرار بحق الشعب الفلسطيني في دولته المستقلة في حدود ماقبل5 يونيو1967, ويختتم مروة الكتاب بمجموعة من النصوص التي اختارها من كتابات المفكرين اليساريين العالميين تؤكد بالطبع هذا الميل الديمقراطي بما يعني أن التجربة الشمولية السابقة كانت انحرافا أو مرحلة وضعها التاريخ بين قوسين لتعود بعدها السياسة الي مجراها الطبيعي. يقع الكتاب في215 صفحة من القطع المتوسط, ويشمل علي قسمين القسم الأول: يتعرض الفصل الأول فيه للتحولات في عالمنا المعاصر, وفي الفصل الثاني يتناول رؤيته لمستقبل اليسار العربي. أما القسم الثاني فيضم نصوصا مختارة من مفكري الاشتراكية. (صادر عن دار الساقي2010)..