اليوم أكمل حديثي عن كتاب ألف ليلة وليلة الذي يطالب بعض المحامين بمصادرته, لاحتوائه علي عبارات جنسية تدعو في نظر هؤلاء المحامين للفجور. وسأبدأ حديثي اليوم بتوضيح ماقلته في الاسبوع الماضي عن الكلمات والمشاهد والأفعال التي لا يصح أن تفهم بمعني واحد, وإنما تتعدد معانيها بتعدد المقاصد وتعدد السياقات. ولقد أفاض البلاغيون العرب والنقاد الغربيون في الكلام عن المعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام, ثم يحسب موضع بعضها من بعض واستعمال بعضها مع بعض كما يقول الجرجاني موضحا الفرق الجوهري بين مانفهمه من الكلمة حين تكون نكرة ومانفهمه منها حين تصير معرفة, أو بين الجملة حين يكون الفاعل فيها في مكانه المعتاد ثم حين يتأخر عن مكانه ويسبقه المفعول. ونحن نعرف الكلمة السائرة لكل مقام مقال. لكن هناك من لايريدون أن يجتهدوا في الفهم بأنفسهم, أو يفهموا عن غيرهم, أو يمتثلوا لغير مااستقر في رؤوسهم. وليذهب البلاغيون القدماء والنقاد المحدثون إلي الجحيم! نقول لهم إن الناس مختلفون, وحاجاتهم متعددة مختلفة. يحتاجون للاجتماع والتواصل والتفاهم. ويحتاجون للانفراد. يتحفظون أحيانا, ويجدون, ويتكلفون الجد والصرامة. ويتحررون أحيانا أخري, ويمزحون, ويهزلون, ويعبثون, وينتجون في الحالين تلك الثقافة التي تتعدد أشكالها, وتختلف صورها, لأن مايحتاجون إليه في ساعة العمل لا يحتاجون إليه وقت الراحة, ومايلتزمون به في أيام الصيام يتحررون منه يوم العيد, وهكذا تختلف الحاجات, وتختلف المقاصد والمعاني. نحن نحتاج في بعض الأحيان لتوضيح أمر لا نستطيع توضيحه إلا بالاشارة إلي أشياء, واستخدام أسماء لا نميل للإشارة إليها أو استخدامها في الظروف العادية, لأن القصد والسياق يختلفان. والمعني إذن يختلف. كلمة النكاح علي سبيل المثال تعني الزواج في سياق معين كما في الآية الكريمة وانكحوا ماطاب لكم من النساء مثني وثلاث ورباع, لكنها في سياق آخر تعني الفعل الجنسي بصرف النظر عن الزواج وعدمه. وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من المفردات التي تدل علي الفعل الجنسي أو تسمي الأعضاء الجنسية, ومنها الجماع, والوطء, والحرث, والفرج, والذكر, والباه.. إلي آخره. وأنا أنظر في تراثنا القديم فأري أننا كنا فيه أقل تحرجا مما نحن عليه الآن, وكنا في الوقت ذاته أكثر عفة وأكثر حياء. كنا وأنا أتحدث الآن عما عشته في طفولتي أقرب إلي الطبيعة, وأقدر علي فهمها. وكنا بالتالي أوسع صدرا, وأكثر تسامحا وقدرة علي التمييز بين الفحش حين يكون مقصودا, فهو تهتك وانحلال نرفضه ونقاومه, وحين لا يقصد ولا يستغل وإنما هو نوع من التحرر والعبث البريء الذي يروح به الناس عن أنفسهم, وهذا ماكنا نتسامح فيه حتي يأتي الوقت الذي نشعر فيه بضرورة العودة إلي الجد والاعتدال. والآن ساء ظننا في كل شيء, وكثر اتهامنا لكل فعل, وأصبحنا ميالين للتعميم وإصدار الأحكام بلا بينة. ولأننا في هذا المناخ الوبيل يراقب بعضنا بعضا, ويترصد كل منا للآخرين ومعه اتهاماته الجاهزة, فليس أمامنا إلا أن ننافق ونرائي ونلبس مايحجب السطح ويخفي مافي الأعماق. بل إننا كنا حتي في عصور المماليك أوسع صدرا وأكثرتسامحا منا في هذه الأيام. وكان فقهاؤنا في تلك العصور أعلم وأقرب إلي روح الاسلام وروح مصر من فقهاء العصر الذي نعيش فيه. قارنوا بين جلال الدين السيوطي مثلا وبين هذا البلياتشو المتكسب بمطاردة الكتاب والشعراء والفنانين وتلفيق الاتهامات لهم وتحريض الغوغاء عليهم. جلال الدين السيوطي, الفقيه اللغوي الأديب صاحب المزهر و طبقات المفسرين, و طبقات الحفاظ وسواها من الموسوعات الجامعة والمؤلفات الرصينة هذا العالم العلامة لا يجد حرجا في أن يؤلف تسع رسائل في الجنس منها الايضاح في أسرار النكاح, و الأيك في معرفة..., و شقائق الأترنج في رقائق الغنج. وهو في هذه الرسائل يحدثنا عن فوائد النكاح, ويفاضل بين البيض والسود والسمر من النساء, ويروي لنا ماقاله الشعراء والفقهاء في الجنس, ولا يتردد حتي في رواية ماتناقله المؤرخون عما كان بين معاوية بن أبي سفيان وزوجته فاختة بنت قرظة, وعما كان عبد الله بن عباس حبر الأمة وابن عم الرسول يرتجز به وهو محرم. يقول السيوطي في شقائق الاترنج في الصفحة الثانية والثلاثين من الطبعة الثانية الصادرة عام1994 عن دار المعرفة بدمشق, تحقيق عادل العامل: وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في( المستدرك), وصححه عن أبي العالية, قال: كنت أمشي مع ابن عباس, وهو يرتجز بالإبل ويقول: وهن يمشين بنا هميسا إن صدق الطير ن.... ك لميسا فقلت له: أترفث وأنت محرم ؟ فقال: إنما الرفث ماووجهت به النساء ونحن نفهم من هذا الخبر معنيين: الأول أن الكلام في الجنس لم يكن محرما لا عند الأدباء ولا عند الفقهاء, ولا حتي عند معاوية وابن عباس. والآخر أن الكلام الذي يعتبر؟ رفثا أي فحشا في موقف أو سياق لا يعتبر فحشا في موقف أو سياق آخر. وهذا ماحاولت توضيحه في هذا المقال, وكنت أظن أنه واضح كل الوضوح, وخاصة بالنسبة لرجال يشتغلون بالقانون ويعلمون أن القانون ليس نصا يفهم بحرفه وإنما هو روح, وأن الفعل يكون واحدا, لكن الحكم عليه يختلف باختلاف الدوافع والظروف, فالقتل حين يكون دفاعا عن النفس غير القتل حين يكون نية مبيتة وحين يقوم به القاتل مع سبق الاصرار والترصد. وفي محاكمة الأعمال الأدبية التي اتهمت بتهم مماثلة, ومنها رواية أوليس للكاتب الايرلندي جيمس جويس, و عشيق الليدي تشاثرلي للكاتب البريطاني د. ه. لورنس احتكم القضاة الانجليز والأمريكيون لهذين الشرطين: القصد, والسياق. هل أراد الكاتب بالعبارات الجنسية التي استخدمها أن يشيع الفحش وأن يتكسب من ورائه ؟ وماهو رد فعلنا التلقائي ونحن نقرأ هذه العبارات ؟ هل نجدها طبيعية يفرضها السياق, أم نجدها مفتعلة ؟ وهل تساعدنا علي فهم الموقف والتعرف علي الشخصيات, أم تثير فقط شعورنا بالتقزز والاشمئزاز ؟ ولقد أدت إجابات النقاد والمحكمين علي هذه الاسئلة للحكم بتبرئة العملين من التهمة الموجهة لهما والسماح بطبعهما وعرضهما علي القراء. ونحن في انتظار كلمة العدالة في ألف ليلة وليلة.