يبرع الرئيس الأمريكي( باراك أوباما) في إلقاء خطبه كأنه يحفظها عن ظهر قلب, أو كأنها وليدة اللحظة, ومن بنات أفكاره التي ولدتها المناسبة, ويسهب في الشرح والتفصيل, وتأتيه الألفاظ والتشبيهات طيعة سهلة وعميقة ومفهومة ومقنعة ويصك المقولات لتصبح شعارات ينبهر بها الشباب, فيؤمنون بجدواها في إصلاح العالم وتربك الشيوخ فيبحثون عن مغزاها في السيطرة علي العالم, ولاشك أن خطب الرئيس هناك من يعدها له, كما يعد الكتاب سيناريوهات هوليود, التي يجب أن تحافظ علي انتباه المشاهد وفضوله في حبكة درامية تجمع بين الجدية والتفريج, إلا أن( أوباما) بفضل ثقافته الواسعة يضفي عليها قناعة خاصة, كأنه فيلسوف براجماتي يحاول إقناعنا بالسير خلفه بناء علي تفكير موضوعي, يأخذ في الاعتبار الحقائق الجيدة والسيئة علي أرض الواقع, فيعرض رؤيته علي أساس أننا نفكر لنعيش, لا نعيش لنفكر! وكما أقر رؤساء أمريكيون مبادئ تم تسميتها باسمهم, يستطيع( أوباما) بعد الخطوات الناجحة في إقناع العالم بجديته في الحد من الخطر النووي في العالم, واتخاذ خطوات أمريكية عملية نحو تحقيق الأمان النووي, أن يقر مبدأ( أوباما) خاصة أن أمامه من الوقت ما يسمح له بذلك إذا استطاع أن يبث الإرادة الحرة في الفاعلين الدوليين في أن العالم قابل للتعديل, وأن السعي نحو الأفضل أمرا ممكنا!. فقد اشتهر في التاريخ الأمريكي مبدأ( مونرو) الذي أقر أن أمريكا لن تسمح بأي استعمار جديد لأي بقعة في الأمريكتين ولن تقبل أي تدخل في شئون الدول الأمريكية من قبل أي دو لة أوروبية. ورغم أنه لم يقر في القانون الدولي, ولكن كان يتم الرجوع إليه في نزاعات بين أي من الدول في الجانبين, وهو وإن حقق مصلحة أمريكية إلا أنها كانت مصالح جماعية, رغم الشكوك التي تولدت لدي الدول في الأمريكتين من النوايا الاستعمارية الأمريكية, التي عززها مبدأ الرئيس( تيودور روزفلت) فيما بعد الذي برر تدخل الولاياتالمتحدة في حال تدخل أي من الدول الأوروبية في شئون أي قطر أمريكي ساءت حالته, وقد نجح( فرانكلين روزفلت) الرئيس الأمريكي في ثلاثينيات القرن الماضي في إزالة الشكوك في النوايا الاستعمارية لأمريكا بإقرار مبدأه.. الجار الطيب! الآن وبعد الفشل الواقعي الذريع للاستراتيجية الاستعمارية العدوانية التي تبناها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش التي حولت أمريكا لامبراطورية للشر تستدعي الاستعمار بشكله القديم, مما كلفها المليارات من الدولارات, وعمقت الأزمة المالية, وجلبت المقاومة من كل نوع, ففشل مشروع الشرق الأوسط الجديد, ووصل إلي منتهاه في فشل الذراع العسكرية في الشرق الأوسط لأمريكا وهي( إسرائيل) في القضاء علي المقاومة في جنوب لبنان أو في غزة, وإن كان هناك من حقيقة تم تأكيدها من هذه الاستراتيجية فهي صواب تكمله رؤية( لينين) في أن الامبريالية الاستعمارية, هي أعلي مراحل الرأسمالية برؤية المفكر الراحل( جمال حمدان) أن إسرائيل أعلي مراحل الامبريالية الاستعمارية وهو ما يفسر وحدة المصالح بين إسرائيل الصهيونية العنصرية التوسعية مع الامبريالية علي مر تاريخها حيث كانت أخطر مناطق العدوانية الامبريالية حتي ظهرت أخيرا كترسانة أمريكية مسلحة! وإذا كانت جهود الرئيس( أوباما) لوضع أسس لمجتمع عالمي جديد يقوم علي القانون الدولي و حقوق الإنسان والحد من الخطر النووي, يمكن اعتبارها مبدأ أمريكيا جديدا نتيجة للارتياح الدولي بالنهج الأمريكي الجديد الذي فرضت الفلسفة البراجماتية التي نبذت فكر المحافظين الجدد العدواني الفاشل وأتت بالرئيس الجديد الذي يحمل أفكارا ثبتت صلاحيتها ونفعها بقدر تحقيقها للأهداف المرجوة والنتائج المرغوبة التي تصب في المصالح الأمريكية, واستطاعت إعادة الاحترام للقوة الأمريكية إلي حد غير متوقع بالنسبة لما كانت عليه, إلا أن مبدأ( أوباما) سيواجه باختبار جذري فيما إذا كانت أمريكا بالفعل تتبني هذا المبدأ أم لا, وهو مواجهة الازدواجية الأمريكية فيما يتعلق بالكيان الصهيوني العدواني التوسعي الذي يمثل أكبر تحد لهذا المبدأ الأمريكي البازغ, فإسرائيل تنتهك القانون الدولي والإنساني, وينطبق عليها كل العقوبات التي تطبق علي إيران, إلا أن هناك حماية وتجاهلا لكل الخروقات الدولية التي تقوم بها, وهو مالا يتناسب براجماتيا مع أهمية إسرائيل كذراع امبريالية في يد القوي الكبري, فحسب المبدأ الجديد تتراجع أهميتها بتراجع النزعة الامبريالية للإمبراطورية الأمريكية, مادامت مصالحها قد تم تأمينها بتكلفة أقل قانونيا وماديا, والأهم أخلاقيا وإنسانيا! ولم يعد ممكنا إلقاء اللوم علي الضحية لتبرير العدوان الإسرائيلي, خاصة مع تصاعد الأصوات الأمريكية ضجرا من هذا الانحياز الأمريكي لساسة وجنرالات وقسس ويهود أمريكيين يدركون أن إسرائيل تتجه نحو نهايتها بالغطرسة والتطرف, الذي لا يعادي العرب الذين تحتل أراضيهم وتهددهم أمنيا ولكن يعادي فلسفة العصر الجديد التي لا يوجد فيها مكان لدولة فصل عنصري! مثلما جاءت البراجماتية الأمريكية بالأمل للأمريكيين أيضا جاءت الأخلاق العربية بالثقة عند العرب فرغم المحن التي مروا بها منذ النكسة في فلسطين حتي تدمير العراق فما زالت قضيتهم حية من أجل الدفاع عن فلسطين وهي جزء من دفاعهم عن هويتهم التاريخية ضد الاستعمار, وتجارب بناء القوة العربية لم تضع هباء, ولكن يمكن الاستفادة مع تلافي الأخطاء الجوهرية التي شابت التجارب العربية في مواجهة الاستعمار, لعل أبرزها الاستبداد ونبذ الديمقراطية والحفاظ علي الفرقة العربية! و لعل حصيلة هذه التجارب تفضي إلي نهضة عربية تراعي مصلحة الشعوب وتحقق آمالها بالتعاون والتكامل, حتي يتبلور لهم ثقل دولي يراعي مصالحهم وأمنهم, وظهرت بوادر التحرك العربي أخيرا في إصدار دول مجلس الأمن بما فيها أمريكا بيانا يتبني وجهة النظر المصرية بإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط, وانضمام جميع الدول بالشرق الأوسط بما فيها إسرائيل للمنطقة الخالية من الأسلحة النووية!. وعي جديد في الدول العربية يتشكل يستمد ملامحه من ثورة الاتصالات التي وضعت تجارب العالم بين أيدينا, ومن تجاربنا المعاصرة في بناء قوة عربية التي ما إن تبزغ إلا ويتم إجهاضها كما حدث في مصر والعراق, وبين هذا وذاك تتنامي الرغبة الشعبية في بناء نهضة عربية تتلافي الأخطاء, وتتواصل مع العالم وقواه الحاكمة, بحيث يتم وضع المصالح والأمن العربي علي الأجندة الدولية والاعتراف بنصيبهم في التقدم بكل أشكاله. وسلاحهم ليس نوويا ولكن أخلاقيا.. ولذلك للحديث بقية! المزيد من مقالات وفاء محمود