يوم الثلاثاء الموافق التاسع والعشرين, من ديسمبر الماضي, هاتفني مندوب وكالة الأنباء الفرنسية في القاهرة, وبادرني بقوله: اعذرني أحمل لك خبرا سلبيا, فانقبض قلبي وخفت أن يكون أحد الأصدقاء قد رحل عن الدنيا, فقد كنت أستعد للذهاب إلي حفل تأبين الصديق الشاعر الكبير محمد صالح فقلت له ملهوفا: أخبرني بلا مقدمات أرجوك, فقال لي: أصدرت محكمة الاستئناف اليوم حكمها لصالح الشيخ يوسف البدري, فقلت له: الحمد لله, واستغرب الصديق, فالحكم بغرامة مالية مهما كانت أهون من فقد أحد الأصدقاء, وهو الفقد الذي لا تعادله أموال الدنيا كلها, وسألني: وما تعليقك علي الحكم؟ قلت له: حكم خانه التوفيق, لا سبيل أمامي إلا الاعتراض عليه ورفضه بالطرق القانونية, ومن ثم اللجوء إلي محكمة النقض. وبعدها تكاثرت المكالمات التليفونية المتعاطفة, وبعد أن عدت من تأبين الشاعر الكبير محمد صالح, كان صديقي نصر أبوزيد في برنامج تعده وتقدمه المذيعة المثقفة رولا خرسا, وجاءني تليفون من البرنامج يسألني عن رأيي في الحكم, وماذا أفعل؟ فأبديت الرأي نفسه, هو حكم يقتضي منا أن نواجهه بالقضاء الذي ليس لنا سوي أن نثق في نزاهته حتي النهاية. وكان البعض قد حذرني من التعليق علي أحكام القضاء, في سياق ترددت فيه عبارة أن الحكم القضائي هو عنوان الحقيقة, وهي عبارة يرفضها عقلي لسببين مع تبجيلي للقضاء المصري ذي التاريخ العظيم والمستنير الذي أعرفه معرفتي بأمجاد هذا القضاء عبر تاريخ مصر الحديث إلي اليوم. أما السبب الأول فهو أن القاضي إنسان يجري عليه ما يجري علي البشر, ويظل حكمه نسبيا في نهاية الأمر, لأن بشريته تحول دون تقديسه, أو تقديس أي حكم صادر عنه, خصوصا أنه يمكن أن يتأثر ببعض التيارات التي تغلب علي المجتمع لهذا السبب أو ذاك, ومنها تيارات قد يكون ضررها علي المجتمع أكثر من نفعها. وكلي ثقة أن القاضي, كل قاض, يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه الله, ويقاوم بكل ما يستطيع من جهد أي تأثير خارجي سلبي, لكنه إنسان في النهاية, ولا يمكن أن نصف حكمه لهذا السبب علي أنه عنوان الحقيقة علي الإطلاق, فكل حقيقة بشرية, مهما كان عنوانها, تظل نسبية قابلة للخطأ أو الصواب, الظلم أو العدل, ولا عصمة إلا للأنبياء الذين يهبهم الله ما لا يهبه لغيرهم من بني البشر غير المعصومين, قضاة وغير قضاة. أما السبب الثاني فهو أن فلسفة النظام القضائي, متعدد الدرجات تقوم علي تدارك ما قد يقع فيه القاضي من خطأ, إمكانا أو فعلا, بحكم بشريته, ولذلك يعتمد القضاء الابتدائي علي قاض واحد, ويعتمد الاستئناف علي قاض ومستشارين. فحكم الاستئناف ثلاثي وليس فرديا. ويأتي حكم النقض لينظر في سلامة الحكم في الدرجتين القضائيتين السابقتين, وهو أمر يعني مراجعة سلامة الحكم القضائي, وصيانة العدل الذي ينطوي عليه. وإذا كان شعوري بظلم الحكم الابتدائي هو الذي دفعني إلي الاستئناف, فإن شعوري بظلم حكم الاستئناف هو الذي يدفعني إلي النقض مسلما أمري إلي القضاء البشري, بعد أن أسلمت أمري إلي ما هو أعظم من القضاء البشري, وهو الله العلي القدير الذي من صفاته العدل. ولهذا سألتزم بتبعات حكم القضاء الأخير, وأتدبر أمري مع جريدة الأهرام الملتزمة معي بتنفيذ الحكم القاضي برفض الاستئناف الذي تقدم به كلانا. وما حوكمت إلا لكتابتي مقالا للدفاع عن حرية الرأي والتفكير, واستنكارا للحجز علي بيت أحمد عبدالمعطي حجازي وهو أكبر شاعر مصري, سنا ومقاما, ولم أكن أصدر فيما كتبت عن هوي أو حتي صداقة, وإنما إيمانا بحق كل مثقف في أن يقول رأيه حرا من أي قيد, وأن يكتب فكره دون خوف, في ظل القانون والدستور الذي يكفل حرية المواطن في الفكر والابداع والتعبير, ولا أزال أعتز بحريتي التي لا تضر الآخرين ما ظللت علي إيماني بحقهم في التعبير عن أفكارهم, في مدي نقد الفكر بالفكر. وأثق في تاريخ القضاء الذي ضم محمد نور رئيس نيابة مصر العمومية الذي أصدر رأيه في عدم تقديم طه حسين للمحاكمة لاتهامه ببعض ما ذكره في كتابه في الشعر الجاهلي سنة(1926) شأنه شأن القاضي المعاصر الذي حكم ببراءة سيد القمني برغم كل ما اتهم به, ولا يزال تهما, وأباح كتابا له, موضع دعوي, في الأسواق, وكذلك القاضي الذي حكم لصالح الروائي محمد عبدالسلام صاحب الجميلات وغيرهم أكثر. ولهذا أعلن أنني سأتوجه والأهرام, وكلي ثقة في موقفها, إلي محكمة النقض, فمن الخطر أن نقبل بما حدث, فبأي حق نحكم بالغرامة المالية الكبيرة علي من يحارب التطرف الديني, مؤمنا بسماحة الدين الإسلامي الذي ينتمي إليه, ولا يتنازل عن مبدأ وجادلهم بالتي هي أحسن, مؤكدا أن اختلاف الأفكار, حتي في فهم الدين, مجاله صفحات الجرائد والمجلات والكتب وأجهزة الإعلام وليس القضاء, فالزج بالقضاء في الخلاف بين دعاة التطرف والتسامح, أو دعاة الدولة المدنية التي نعيش فيها ونستظل بدستورها ودعاة الدولة الدينية التي يسعي البعض إلي إقامتها, إنما هو تهديد للدولة المدنية, وما يترتب علي حقوق المواطنة فيها, وأولها حرية التفكير والتعبير. ونحن المثقفين الذين يطاردنا الشيخ يوسف البدري, وحسابه متروك لخالقه وخالقنا, لن تخفينا دعاواه أو غيره, فلم نقبل الدنية في ديننا؟! ونحن نعتقد أننا علي الحق. لقد وصل ما كسبه ضدنا من قضايا خلال العام المنصرم وحده إلي رقم كبير جدا, هو في حد ذاته سؤال جارح, يهدد حضور الدولة المدنية ومعناها, وينقض حرية التفكير التي تكفلها اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية التي وقعت عليها مصر, ويفترض ألا يناقضها دستورها وقانونها. ومن أجل قيم الدولة المدنية التي نعيش في ظلها, ومن أجل حماية المجتمع المدني, ودفاعا عن مبادئه الديمقراطية التي تكفل حرية الفكر والإبداع, وتأكيدا لالتزام وطننا بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان, فإننا لن نتراجع عن مباديء الإستنارة والعقلانية وحرية الفكر والإبداع, ونلح علي ضرورة عدم الزج بالقضاء في صراع ظاهره ديني, وباطنه سياسي, صراع يهدف إلي تدمير قيم الإسلام السمح, وإلا ففيم كان معني المجادلة بالتي هي أحسن, وإثابة المجتهد حتي لو أخطأ, فحق الخطأ في الاجتهاد, من حيث هو فعل بشري, مأجور عليه في ديننا الذي نزعم أن الذين يحاربوننا فيه تعصبا, يسعون إلي توريط القضاء في معركة بين دعاة الدولة المدنية ودعاة الدولة الدينية الذين يجادلون بالتي هي أقمع. ولذلك سوف نلوذ بالقضاء من أحكام القضاء, حين نعتقد ميلها عن الحق, ومعنا كل القضاة المستنرون, وهم كثر, فلن يرضي المجلس الأعلي للقضاء ولا المجلس القومي لحقوق الإنسان بما يحدث, ولن تقبل نوادي القضاء التي تدعو إلي استقلال القضاء بزج القضاء في أمور ظاهرها الدين وباطنها السياسة. ويا قضاة مصر من أنصار الدولة المدنية كونوا معنا نحن الذين نستجير من بعضكم القليل بأغلبكم الكثير. فلا يليق, بنا وبكم, أن نقبل دعاوي رجل يدعي الوصاية علينا دينيا, وأن ينال كل هذه الأموال الوفيرة علي حساب حرية الفكر التي يقرها دستور الدولة ودين أغلبيتها التي تؤمن بمبدأ المجادلة بالتي هي أحسن, خارج ساحات القضاء الذي ينبغي أن يبقي, كما كان دائما, حصنا لحرية الفكر المستنير, وقلعة دفاع عن الدولة المدنية الحديثة الذي هو أحد أعمدتها. المزيد من مقالات جابر عصفور