إلا.. حضن أمي محكمة.. قضت محكمة استئناف الإسكندرية للأحوال الشخصية برفض دعوي الطفلة منار سيد إبراهيم بضمها لحضانة أمها وتأييد الحكم بضمها لحضانة جدتها لأبيها.. رفعت الجلسة. يا سيدي.. أشكو إليكم رحيل أمي المفاجيء, أصبحت أعود إلي الدار لأجد من يضمني إلي صدره وصرت جذرا مقلوعا ألقي به علي جانب الطريق لتدهسه أحذية المارة.. أتمدد وحيدة في الغرفة نفسها التي شهدت يوم ميلادي والغرفة نفسها التي ارتشفت فيها الدفء من قلب أمي المحب وتوارت أمي عن الدار.. وتركت لي رائحتها الطيبة.. ولكن انطفأ نورها الحاني وكست العتمة حياتي ووحشة الليل الطويل تفزعني. يا سيدي.. لماذا توارت أمي تلك المرأة التي عبأت رأسي بالأحلام تتخلي عني الآن لتستدفيء بأحضان آخر.. الوحدة تفتك بي سيدي بين كل الجدران المصمتة.. خمدت كل الأصوات وتلاشت معها الحياة.. أريد أن أرحل لأعيش مع أمي وأتعلق ببقية من الحياة. أين عيونها لتري وحدتي.. أين أذنها لتسمع آهاتي رحلت وتركت لي ذكري تطلق الرعب والخوف في صدري بعد أن كانت يوما أنيس الوحشة والغربة.. أي يد ظالمة سلبتني صدر أمي أي ظروف قاسية حرمتني حنان أمي رحلت بباقي أمني ولم أعلم برحيلها المفاجيء. يا سيدي في لحظة واحدة احتضنتني وافترقنا وأغلقت باب حاجتي إليها للأبد.. ورحلت بآخر ما تبقي لها من مبررات كي تستمر في وجودها بجواري.. تركتني مثل عصفور انطوت بين جناحيه السماء.. فلم يجد سوي أحلام للبقاء وما تركته لي من تعاسة وشقاء كفيلا أن يفقدني رغبتي في الحياة.. محبطة أنا سيدي.. ولكن بذور الأمل تنمو داخلي بأن تقتضوا لي بضمي لحضانة أمي برغم أنها تزوجت من آخر. بللت الدموع أحلامها المنكسرة وفي نظرات الحسرة واللوعة تناثرت دموعها في منديل ورقي رطبته الدموع بالألم. وقالت يا سيدي.. لا أبخس ما شرعه الله.. فهذا حقها.. لها أن تعيش وتتزوج وتسعد بسنوات عمرها وشبابها خاصة أنها تمتلك وجها ملائكيا لم تستطع قسوة الأيام من تغيير ملامحه.. فقد وقفت سفينة حياتها مع أبي علي أعتاب المحاكم بعد رحلة طويلة من الشقاء والشجار.. غرست أمي بذورها عندما رفضت الانجاب بعد مولدي بزعم أن كثرة الإنجاب تنهك الصحة وتهد الجسد وتغير ملامحه وهي ترغب في الاحتفاظ بأنوثتها وجمالها وكثرة العيال قد تلهيها عن عملها.. ومرت السنون ووالدي يتوسل تارة.. ويثور أخري.. ويهدد بالطلاق ثالثة.. وأمي تصمد أمام تهديداته في شموخ العظماء.. لم ترتجف.. لم يتحرك لها ساكن.. وصممت أن أعيش وحيدة ولم يقو أبي علي الصمود.. وعصف بآخر الحكاية وتزوج من ابنة عمه.. فهو ابن الجنوب الذي يعشق العزوة والبنين وبدأ لهيب الشيب يزحف لرأسه وخشي أن تسرق أمي سنوات عمره الباقية.. وتحت ضغوط أبويه وأشقائه فك أسره من أمي وتركها تختال بجمالها وارتمي في أحضان أخري. يا سيدي.. اشتعلت نيران الغيرة في قلب ست الحبايب.. فكيف تجرأ ذلك الفلاح علي بنت المدينة والحسب والنسب وتزوج عليها.. وثارت وهاجت وقررت أن تجرعه من الكأس نفسها التي رواها منها.. واسرعت للمحكمة وأقامت دعوي خلع.. وبعد أشهر لا تتعدي أصابع اليد الواحدة حصلت علي حريتها. ولأن والدي يتلفح بشيم الرجال وخصال الشجعان ترك لها شقة الزوجية.. وكان يغدق علينا الأموال والهدايا ولا يغمض له جفن إلا بعد الاطمئنان علينا.. وكانت أمي ما زالت في عصمته. مرت الشهور وفوجئت بها تزف إلي البشري بأن أوصالها ارتجفت لزميلها في العمل.. فهو شاب يصغرها بخمس سنوات ولم يسبق له الزواج.. ويعشقها أكثر من حبه لنفسه.. وراحت تسرد لي كلمات وعبارات لم تستطع سنوات عمري القليلة أن تدركها.. فكنت أهز لها رأسي وكأني أعي كل ما تقوله حتي أفقت علي كلمة واحدة قالتها لي.. وهي أنها سوف تتركني أعيش مع جدتي لأبي.. فهي تعشقني أكثر من كل أحفادها ووعدتني أنها ستحضر لزيارتي مرة كل أسبوع.. وانتابتني حالة من الهيستيريا.. فكيف طاوعها قلبها علي طردي من حياتها.. فأنا لا أقوي علي فراقها.. أحضانها كانت لي الأمان.. أنفاسها كانت الدفء.. يديها كانت تسكن آلامي وتداوي جروحي. ارتميت بين أحضانها سيدي.. وانكفأت علي أقدامها أقبلها وأتوسل إليها.. لا ترحلي يا توأم الروح والجسد.. لا تتركيني يا عشقي يا أمي.. يا نبع حبي وحناني.. ولم تبكيها كلماتي سيدي.. وأنا أقبل كل ذرة في جسدها والتصق بها كي تسمع نبضات قلبي وهي تقسم أنني لا أعشق سواها.. ولا أقدر علي العيش بدونها.. دفعتني.. اتهمتني بالأنانية.. فلماذا لم أفعل ذلك عندما رحل أبي وتزوج من أخري.. ولماذا أبكي لرحيلها.. ألم تدرك سيدي أنها الأولي في عمري.. ألم تعلم أنني لم أتعلم من الأبجدية سوي حروف اسمها.. ألم تعرف أنها سحبت عمري مع حبلها السري.. فانسابت حياتي بداخلها؟!! رحلت سيدي وتزوجت من آخر وانتقلت لشقة جدتي التي تخشي علي من لفح أنفاسها.. ولكني سيدي دمي لا يزال يحتضن أمي وصورتها لا تفارق عيني كلماتها ترن في أذني رائحتها تزكم أنفي الموت أهون علي من العيش بدونها.. أنا ما زلت في الثانية عشرة من العمر وأحتاج لصدر أمي وقلب أمي. أرجوك سيدي.. أعيدوني لأحضانها أو أزهقوا روحي إذا وقف القانون حائلا بيني وبين أمني وأماني. اعلم سيدي أن سنوات عمري أقل بكثير أن أقف أمام عدالتكم.. جدتي هي التي أقامت الدعوي عندما شعرت أنني أموت في اليوم ألف ألف مرة.. بينما تنعم والدتي في الحياة مع زوجها يا سيدي احكموا لي بعودتي للحياة.. وأنا من ذلك المحراب المقدس أناشدها أن تلملم اشلائي وترحم ضعفي وتعيدني لأحضانها. المحكمة بعد الاطلاع والاستماع إلي أقوال الأم بأنها لا ترغب في إقامة صغيرتها معها خشية علي مشاعر زوجها وحتي لا تجلب لنفسها المشاكل خاصة أنها تأتمن الجدة علي رعاية ابنتها.. قضت المحكمة برفض دعوي الصغيرة والحكم ببقائها مع جدتها. رفعت الجلسة وصدر الحكم برئاسة المستشار محمود خليل رئيس المحكمة.