إيناس عتمان: قالوا: مجذوبة, قد مسها جن برهوت, أصبحت لعنة تجوب شوارع المدينة, بشعرها الغجري المنكوش, ملابسها الرثة, قدميها الحافيتين والملوثتين ببكتيريا الشارع الكبير.. فكل من يراها يتحول إلي خرقة بالية من الخوف! وبات صغار المدينة يصبون عليها لعناتهم.. حجارة تدمي وجهها المغبر بأتربة الطريق, وصيحات تهز عرش لعنتها هزا.. المجنونة أهي.. لم تكن لتدافع عن نفسها إلا بطي الطريق تحت أقدامها هربا إلي مأواها, وزفرات من أنفاسها: آاااه.. آاااه, ودموع تصنع بحرا يأخذ زورق أيامها إلي الغياب. وأنا أري كل ذلك يحدث أمام عيني كل يوم.. لابد أن هناك حكاية مطوية في محفظة أيامها لم أعرفها بعد! قررت ولوج عالمها الخفي.. سرت في الظلمة علي ضوء شمعة تشتعل بين يدي, أتلمس طريقي إلي الحكاية.. وعلي عتبة مأواها وقفت.. سمعت همهمات غريبة تصدر.. انفتح الباب وأخذ دخان أبيض يلف أطرافي.. ورائحة.. رائحة بخور جميلة, ارتفع صوت عذب من الداخل.. دغدغ مشاعري.. حاولت الهروب ولكن هيهات.. فقد كبلتني الرائحة وأسرني الصوت وعلي غير هدي.. دلفت من العتبة متمتة: بسم الله.. حينئذ ساد المكان هدوء مزين.. يحتوي علي شموع دافئة, سجادة وثيرة تدفئ برودة الأرض بصوفها.. ومنضدة تحمل عليها أوراقا, ريشة, دواة حبر, وكتابا كبيرا, وأربعة جدران ملأي بصور شتي من حياتها.. استولي علي المكان بسحره.. بعث في طمأنينة وشعور بالارتخاء, توجهت إلي منضدتها وبيدي داعبت طرف الكتاب, فتحته ثم نظرت إلي صفحاته وجدت حروفا مزينة وأخري مموهة وصفحة مزركشة بحروفها وأخري غائبة من أي حرف! وأثناء ذلك صدح صوت عذب خلفي حياتي الحياة.. أقبلت ثم ولت..لم تعد.. آه يا حياتي.. نور عيني وسمائي.. نصب تذكار الذكري.. سري الصوت يتبختر في الهواء إلي أذني, امتزجت روحي معه وحلقت لثوان معدودة, أدركت وجود شخص ما خلفي.. التفت لأري مصدر الصوت علها تكون المجذوبة.. أيعقل أن تكون هي؟!.. رأيت امرأة ترتدي الشمس.. تمتمت: يا الله, أقبلت عليها -من أنت؟ أأنت المجذوبة؟ -ضحكت ثم قالت: أنا.. أنا وليدة المدينة. أردفت: يقولون إنك مجذوبة! فجذبتني من يدي.. وعندما لمستني سرت قشعريرة في جسدي.. تهدلت جفوني وطوت تحتها بؤبؤ عيني, سرت معها كالمسحورة, لا أشعر بشيء سوي أنفاسها ونورها الذي أنزل ستائر علي بصري.. قاومت, فتحت عيني, وتلفت.. لأجدني وحدي أمام صورة معلقة علي الجدار.. نظرت فيها بعمق فوجدتني هناك.. والمجذوبة تتلألأ في زجاج عيني. خيال مآته.. سمعت أبي يتحدث عنه بحذر.. كلما مررت عليه في أرضه ألحظ ذاك الجسد الخشبي المحشو بقش الأرز الأصفر.. بقبعته, ملابسه المهترئة, طالما أصابتني حالة من الفضول لمعرفة ما هو ذاك الجسد, ماذا يفعل في أرضنا؟ دائما أسأل, لكن.. كالعادة- ما ارتوت شجرة تساؤلاتي يوما بأي فيض من إجابة.. بحجة كثرة انشغاله. وحين بدأنا نغط في النوم, سمعنا طرقا شديدا علي الباب, فزعنا. -الحق الأرض يا أبو محمد! فتح والدي الباب, خرج مسرعا حافي القدمين, شبه عريان, لحقت به.. لا أعلم ماذا يحدث أو حدث بالفعل! وعندما وصلت.. رأيت الأرض وقد تحولت إلي كتلة نار, لمحت صاحب الجسد الخشبي في منتصفها منتصبا لم يمسسه سوء! بدت عليه علامات سعادة غامرة! أبي يضرب كفا بكف, ويقول: عليه العوض ومنه العوض, تجمع أهالي القرية كل يدلي بدلوه.. تكاتفوا ليخمدوا النار, لكن.. النار أبت إلا وأن تترك الأرض يبابا, الكل يصرخ.. هو.. هو السبب.. خيال المآتة السبب.. نظر أبي إليه وأقسم علي أن يخلع جذوره من الأرض, عدنا إلي المنزل, بعد منتصف الليل أيقظني من نومي, أخذ أبي فأسه: - امسك الكشاف ده وتعالي معايا.. - حاضر.. مشيت معه دون أن أسأله: إلي أين؟.. أعلم في قرارة نفسي أننا سنخلعه من أرضنا الليلة. وعندما وصلنا.. سرت في جسدي قشعريرة من خوف.. بدا علي القلق.. وأخذ أبي يربت علي كتفي ثم قال: لا تخف.. نحن أقوي! سنخلعه ونحافظ علي أرضنا.. إرث جدك سيعود!.. نزل كلام أبي علي قلبي كماء بارد أطفأ شعلة الخوف, زاد ذاك شعوري الممض.. البطش بذاك الجسد- الممتد بجذوره في باطن أرضنا- انتعاشا بداخلي, سرنا معا يدا بيد وحينئذ.. وجدناه وقد تبدل, عيناه يتطاير منها شرر, يتوعدنا بالفتك, في يده هراوة حديدية, يرتدي قبعة سوداء.. بثبات تقدم والدي, ضرب جذوره بفأسه, صارت معركة محتدمة ما بين الفأس والهراوة.. انكسر الفأس علي إثرها.. أنهكت قوي أبي كثيرا, توقف ثم نظر إلي وقال: هنرجع بكرة!.. في اليوم التالي عدنا, لكن.. خيال المآتة قد ألبس نفسه زيا آخر.. عباءة وعمامة. وكأنه يحاول التخفي حتي لا نراه جيدا.. غبي.. لا يعلم أننا أدركنا وجوده وتلونه من البداية! حاولنا المرة, فشلنا.. رجعنا, عدنا.. كل يوم نعود.. وفي كل مرة يبدل خيال المآتة ثوبه وأداة معركته.. كل مرة نحاول القضاء عليه ونفشل. في آخر الأمر قررنا ألا نعود إلا بجسده, اقتربنا.. عندئذ كنت أنظر له من مسافة قريبة جدا غير كل مرة.. هلعت, تركت والدي, عدت إلي المنزل مسرعا, دخلت حجرتي, نظرت بالمرآة لأجده أمامي ينظر إلي. علي حافة الظل.. عانقت فجرا شفيفا.. رأيت بيوتا.. نجوما.. سماء.. و.. كلمات. أخذت فرشاتي بألوانها, اقتربت من الجدار. فاجأني صوت أمي: - تتعلق في السماء الكلمات نجوما.. ربما! أو لعلها ترتحل إلي بلوتو.. هه.. قلت: - يقال إن علي ظهر ذاك الكوكب الحرارة منخفضة.. والأشياء الباردة ظاهريا دائما تحمل الكثير من الحنان.. هكذا هو الجدار يا أماه. - شيء محتمل.. لكن ما نهش في دواخله لا أظنه سيبرأ!.. عاودت النظر للجدار.. وفي تلك المرة.. كلام أمي يتردد علي مسامعي بقوة.. أمعنت النظر, فأبصرت.. نتوءات, وحفرا, أصابتني دهشة لم تنل من عزمي علي المضي قدما, اقتربت أكثر.. هممت, لكن راودني كلام أمي مرة أخري: ما نهش في دواخله لا أظنه سيبرأ!.. نظرت لنهر الطريق.. أرعبني عبوره دون وجود جدار.. اتخذت قراري وبدأت رحلتي الممتدة معه ب.. فرشاتي, مر بي العابرون وكأنهم شخصيات كارتونية مشوهة, لم أعر للأمر انتباها, ثم أسندت كفي علي الجدار لأكتفي.. أتاني صوت أمي مرة أخري من خلف الجدار: - الحياة هي.. أن تحزن/ تبكي.. ولا تجد إلا الجدار! وقد يكون الجدار سبب ألمك! حاذري. انتابتني حيرة, وغمرني بحر الخوف.. حذر!.. بت أنظر إلي الجدار بطرف عيني.. أراقب ظلي عليه.. في خشية.. تمايلت بعيدا عنه.. جذبني نحوه بخيوط لم أستطع أن أراها.. وجدت كل الحكايا كتبت عليه.. اطمأننت.. هممت بأخذ فرشاتي أعزف بألوانها علي الجدار.. هبت ريح باردة من ظلمة ليل.. هرولت إلي الجدار أحتمي.. ازدادت الرياح ضراوة.. باغتتني في العتمة.. انتزعت من يدي فرشاتي.. ونزعت منها ألوانها, حاولت التشبث به.. انهارت كتله الصلبة حولي.. عانقني الألم.. وعلت علامات الاستفهام.. كيف؟.. لم؟.. حاولت تثبيت صورتي.. امتد ظله يحتضنني.. ودمعة من جفن أمي.. ثم صرخت.