في الوقت الذي ينشغل فيه العالم باتهام كل من إيران وكوريا بحيازة أسلحة الدمار الشامل رغم الصمت الكامل عن أسلحة إسرائيل النووية خرج علينا الملياردير الأمريكي وارين. بافت بالتنديد بظهور الاسلحة المالية للدمار الشامل وهو يقصد بذلك ما افرطت فيه المؤسسات المالية بإصدار أصول مالية غير مستندة إلي أساس اقتصادي سليم, والتي أطلق عليها اسم( الاصول المسمومة)ToxicAssets, لأنها تسمم الوسط المالي والاقتصادي المحيط. مما دعا الرئيس أوباما الي التقدم إلي الكونجرس ببرنامج للاصلاح المالي, حيث يواجه مقاومة شديدة من الأوساط المالية وبعض أنصارهم في الهيئة التشريعية. فما هي القصة بالضبط, ما هي حكاية هذه الأسلحة المالية للدمار الشامل؟ جاءت الأزمة المالية العالمية الأخيرة(2008), وفجرت قضية الاصول المالية التي توسعت البنوك والمؤسسات المالية في إصدارها, والتي تبين أنها لاتستند دائما إلي حقائق اقتصادية سليمة مما زعزع وجود القطاع المالي نفسه, كما هدد بالإفلاس عددا غير قليل من كبار البيوت المالية, فضلا عن إضعاف أوضاع بعض الدول( اليونان, إسبانيا). وقد أفلس بالفعل في الولاياتالمتحدةالأمريكية أحد أكبر البيوت المالية ليمان برازرزLehmanBrothers وتدخلت الحكومة الأمريكية لإنقاذ العديد من البيوت المالية الأخري مثل شركة( أيه آي جي)AIG( أكبر شركة للتأمين), وشركات الرهن العقاري( فاني/ فريدي), كما ساعدت علي إتمام بيع بنك بيراسترزBearSterns, لبنك تشيز مورجان وذلك بضمان من بنك الاحتياط الأمريكي, وسهلت أيضا شراء بنك أوف أمريكا لميريل لنش لإنقاذ الأخيرة من خطر الإفلاس. وأخيرا, اتهمت هيئة الرقابة علي الأوراق المالية الامريكيةSEC بنك جولدمان ساكس بتضليل المستثمرين بحثهم علي شراء أوراق مالية مغشوشة( مشتقات مالية), فما هو أساس الأتهام؟ كانت المالية, وخاصة في الولاياتالمتحدة, قد بدأت منذ عدة عقود بالتوسع في إصدار أنواع متعددة من الأصول المالية المعقدة والمركبة, وهي المعروفة باسم المشتقات المالية وذلك ببناء هرم من الأوراق المالية طبقة فوق طبقة من الديون, وبما يهدد بانهيار هذا البناء المالي التراكمي إذا أصاب الديون الأولية أية مشكلة في الوفاء. ولبيان ذلك نأخذ مثالا لما يعرف التوريقSecuritzation للرهون العقارية. فهنا يقوم البنك بمنح قرض لمشتري العقار بضمان رهن هذا العقار لمصلحة البنك وبذلك يتجمع في دفاتر البنك مجموعة كبيرة من الرهون العقارية, ولكن البنك يريد أن يتوسع في أعماله, فماذا يفعل؟ هنا جاء خبراء المال واقترحوا فكرة التوريق وبمقتضي هذه الفكرة يطرح البنك سندا جديدا للاقتراض من الجمهور بضمان محفظة البنك من الرهون العقارية. وبذلك يسترد البنك أمواله التي سبق أن أقرضها ليستخدمها في قروض جديدة لعملاء جدد ويقبل الجمهور علي شراء هذه السندات المضمونة بحزمة الرهونات العقارية لدي البنك, ثم تتداول هذه الأوراق في الأسواق أن تكرر هذه العملية طبقة بعد الاخري. وتتزايد الديون المتداولة, وهي تستند جميعا إلي الرهن العقاري الاولي. وتلجأ بعض البيوت المالية لمزيد من التعقيد إلي إضافة ضمانة اخري إلي هذه الاوراق فالبنك أو صندوق الاستثمار الذي يصدر الورقة الجديدة بضمان الرهونات العقارية القائمة, يلجأ إلي إحدي شركات التأمين, عادة شركة إية آي جي, أكبر شركات التأمين بطلب التأمين علي الورقة المضمونة بالرهون وذلك ضد مخاطر عدم الوفاء, وهو مايطلق عليها مقايضة الاخفاق الائتماني وقد قامت شركة أيه آي جي بالفعل بالتوسع في التأمين علي هذه الاوراق المالية المضمونة بالرهون العقارية. وهكذا تتداول هذه الاوراق الجديدة في الاسواق لأنها تتمتع بضمانات متعددة, ليس فقط بوجود الرهون العقارية لحساب البنوك, وإنما أيضا بالتأمين عليها لدي أكبر الشركات عند عدم الوفاء لعدم كفاية الرهن مثلا وكان يطلق علي هذه البهلوانيات المالية لاختراع هذه المشتقات, اسم الهندسة المالية لإعطائها طابعا علميا. ومشكلة هذا النوع الجديد من التأمين أنه يختلف عن التأمين العادي الذي تمارسه شركات التأمين في أعمالها الجارية. فعادة تؤمن الشركات علي مخاطر مستقلة وغير مرتبطة ببعضها البعض. فعند التأمين ضد مخاطر الحريق أو حوادث السيارات مثلا, فإنه إذا تعرض المنزل أو المصنع المؤمن عليه للحريق أو عند إصابة السيارة بحادثة, فلا يعني ذلك أن جميع المؤمنين الآخرين سوف يصابون بنفس المخاطر في نفس الوقت. وليس الأمر كذلك في حالة الرهون العقارية, ذلك أن فشل أحد المدينين في السداد يرجع عادة إلي انهيار أسعار العقارات بشكل عام. وبالتالي فإن خطر عدم السداد يصيب معظم المؤمنين الآخرين في نفس الوقت, لأن سوق العقار قد انهارت. وهكذا تواجه شركة التأمين مشكلة تعويض جميع المؤمنين دفعة واحدة, مما يهددها بالإفلاس. وهذا بالضبط ما حدث في أمريكا عند انهيار سوق العقار, حين بدأ تخلف المدينين عن الوفاء, إذ انتشرت العدوي بين جميع المدينين, وواجهت شركة( أيه اي جي) مشكلة المطالبة الجماعية من حاملي الأوراق المؤمن عليها كلهم بالتعويض في نفس الوقت. وهنا اضطرت الحكومة الأمريكية إلي التدخل لحماية شركة( أيه اي جي), ومن ورائها عدد كبير من المؤسسات المالية التي استخدمت التأمين علي أوراقها لدي تلك الشركة. وقد قامت الحكومة الامريكية بشراء نسبة عالية من أصول الشركة المسمومة وضخت بذلك أموالا سائلة في خزينة شركة( أيه آي جي) مما مكنها من الوفاء بالتزامها بدفع التعويضات للمؤمن عليهم. وكان أكبر المستفيدين من إنقاذ الشركة, هو بنك جولدمان ساكس الذي كان يحتفظ بمحفظة كبيرة من الأوراق المالية المؤمن عليها من( أيه أي جي) وهكذا جاء تدخل الحكومة بإنقاذ شركة التأمين( أيه أي جي) خدمة هائلة لبنك جولدمان ساكس وكان أن حقق جولدمان ساكس في السنة التالية2009 أكبر رقم للارباح, حيث بلغت13,4 مليار دولار. ويري بعض الخبثاء, أن تدخل الحكومة الأمريكية لإنقاذ شركة أيه أي جي لم يكن تماما لوجه الله, وإنما كان إنقاذا, في الواقع, لجولدمان ساكس الذي كان رئيسه السابق بالصدفة هو نفسه وزير الخزانة الامريكية الذي أعد خطة الإنقاذ. وفي الأيام الأخيرة, قامت هيئة الرقابة علي الأوراق المالية في أمريكا بتوجيه الاتهام الي بنك جولدمان ساكس بأنه ضلل عملاءه بعدم تحذيرهم من مخاطر الأوراق المالية التي روجها لهم ونصحهم بالاستثمار فيها, وذلك رغم معرفته بأن أسعارها معرضة للانخفاض في المستقبل. وتبدأ القصة كما نشرتها الصحافة العالمية, بأن أحد نواب رئيس البنك فابريس تور في الثلاثين من عمره ساعد علي بيع ورقة مالية كأحد المشتقات المالية المستندة إلي رهون عقارية الأدني جوده, والتي قام بتصميمها أحد مدراء صناديق التحوط وهو السيد جون بولسن الذي اختار بنفسه الرهون العقارية الضامنة للورقة المالية, وحيث حرص علي أن تكون هذه العقارات معرضة لانخفاض الأسعار في المستقبل, لكي يضارب هو عليها علي هذا الأساس. ورغم معرفة جولدمان ساكس بهذه الخلفية للورقة المالية فإنه روج بيعها بين عملائه دون إشارة إلي الدور الذي لعبه السيد بولسن في تصميم الورقة. ومعروف عن جون بولسن في الأوساط المالية في بورصة نيويورك بأنه متخصص في المضاربة علي انخفاض أسعار الأوراق المالية بالتدخل ببيعها بيعا آجلا وبالفعل فإنه حين كلف بنك جولد مان ساكس بترويج الورقة بين عملاء البنك, كان يبيعها لحسابه بيعا أجلا في نفس الوقت مضاربا بذلك علي انخفاض أسعارها. لأنه أختار الرهون العقارية بنفسه في الورقة, ويعرف أنها رهون مشكوك في قدرتها علي السداد. وبالفعل انخفضت أسعار هذه الأوراق, وحقق السيد بولسن. أرباحا مذهلة قدرت بمليار دولار, وخسر المستثمرون ثرواتهم في حين حصل جولدمان ساكس علي عمولات نتيجة جهوده في ترويج بيع هذه الأوراق قدرها150 مليون دولار. هذه إحدي روايات أسلحة المالية للدمار الشامل التي أطلقتها المؤسسات المالية وراح ضحيتها مئات الآلاف من صغار وكبار المستثمرين والمدخرين. وهي عمليات تقوم بها المؤسسات المالية دون رقابة كافية من السلطات الحكومية, وتحقق من ورائها أرباحا هائلة. والأكثر خطورة, هو أنه إذا فشلت إحدي هذه المؤسسات في هذه المغامرات, فإن الحكومات تضطر عادة للتدخل لإنقاذها حماية للاستقرار المالي بمقولة أنها أكبر من أن تفشل ويتحمل دافعو الضرائب اعباء هذه العملية. وفي الحالة العكسية وعندما تتحقق الأرباح الكبيرة, فإنها لاتذهب كلها إلي المساهمين, كما نتوقع, بل أن نصيبا هاما منها يحصل عليه المديرون في هذه المؤسسات. فقد قدر أنه خلال السنوات الخمس السابقة علي وقوع الأزمة المالية, حصل المديرون في هذه المؤسسات علي مبالغ, في شكل مرتبات وبدلات وحوافز ومكافآت تراوحت بين32 38% من مجموع أرباح المؤسسات المالية, أي أن أكثر من ثلث الأرباح المحققة في المؤسسات المالية الكبري في أمريكا يحتفظ به حفنة من المديرين, وذلك علي حساب جمهور المساهمين. وفي جلسة الاستماع التي عقدها الكونجرس بعد إفلاس ليمان برازرز, تبين أن ريتشارد فولد رئيس ذلك البنك, قد حصل علي حوافز قدرها22 مليون دولار في شهر مارس2008, وذلك قبل إعلان الشركة بستة شهور, وأن مجموع ما حصل عليه من مكافآت خلال السنوات الخمس السابقة علي إفلاس الشركة482 مليون دولار. هذه بعض أمثلة الأسلحة المالية للدمار الشامل التي راح ضحيتها مئات الالاف إن لم يكن ملايين بين صغار وأحيانا كبار المدخرين والمستثمرين. ولذلك, فإن الحاجة إلي إصلاح النظام المالي والرقابة علي مايجري فيه تبدو أكثر من ملحة. والله أعلم www.hazembeblawi.com