حينما احتد النقاش حول ما يجري في مصر حاليا من صراع بين تيارات الإسلام السياسي وبقية القوي الوطنية, صاح صديقي قائلا: لا نريد فرعونا جديدا!! فأدهشه ردي الهادئ: يا ليته يكون كذلك. فصاح مرة أخري: أتريد أن يحكمنا ديكتاتور جديد!! قلت له يا صديقي أرجو أن تميز بين الفرعون والديكتاتور; فالفرعون لم يكن ديكتاتورا ولم يكن مستبدا كما تدعون عليه. إنني بحق أعجب من شعب لا يقرأ تاريخه جيدا, ويظل يردد عبارات وشعارات غير صحيحة دون أن ينشغل ولو لمرة واحدة بأن يقرأ ويعرف حقيقة الأمر. فهل كان الحاكم المصري في مصر القديمة ملكا مستبدا متسلطا لا يقف في وجهه أحد ولا يخضع لقانون؟!. الحقيقة يا صديقي العزيز أن كلمة الفرعون لم تكن تعني أكثر من صاحب القصر أو ساكن القصر الملكي. كما أن الملك المصري القديم كان يخضع للقانون مثله مثل شعبه, وكانت لديه سلطة قضائية يحترمها وقد كشفت الوثائق القديمة عن مدي استقلال القضاء في مصر القديمة حيث كانت المحاكمات تسير بدقة طبقا للإجراءات القانونية. ويروي التاريخ المصري حادثتين علي جانب كبير من الأهمية والدلالة; ففي محاكمات الأسرة السادسة والأسرة العشرين حدث أن رجال الحاشية بزعامة زوجة الملك دبروا مؤامرات لقلب نظام الحكم بعد قتل الملك الجالس علي العرش; ففي عهد الأسرة السادسة في عصر الملك بيبي الأول دبرت زوجته مؤامرة لقتله وقيل أن سبب ذلك كانت غيرتها من زواج الملك بأميرتين غيرها وفشلت المؤامرة وأصدر الملك قراره بتشكيل محكمة لمحاكمتها. وفي عهد الأسرة العشرين في عصر رمسيس الثالث دبرت إحدي نساء الحريم الملكي مؤامرة لقتله والاستيلاء علي الحكم لتمكين ابنها من اعتلاء العرش, وقد اكتشفت هذه المؤامرة أيضا وأمر الملك بتشكيل محكمة لمحاكمة, المشاركين في هذه المؤامرة. إذن لقد شرع المتآمرون في قتل هذين الملكين ولكنهما لم يدفعا هؤلاء المتهمين للإعدام دون محاكمة رغم أن ذلك هو رد الفعل الطبيعي لملك يستيقظ ليري قاتليه وهم سيشرعون في قتله, فيهم رابط الجأش ليستدعي القضاة ويحيل إليهم الأمر مؤكدا لهم أن عليهم أن يتبينوا عبر التحقيق الجريمة والمشتركين فيها, محددين نصيب كل مجرم من الجرم ومنزلين عليه العقاب الذي يستحقه دون تدخل منه ويحذرهم من أن يعاقبوا بغير حق!. يا صديقي لقد كان ملوك مصر القديمة هم من يتغنون بالعدالة ويشعرون مع تطبيقها علي كل أفراد الشعب بالسعادة وأنهم سينعمون بالخلود بعد هذه الحياة. انظر إلي حتشبسوت تلك الملكة المصرية القديمة التي كتبت علي قبرها لقد كان خبزي العدالة. هذا ما كان يفتخر به ملوك مصر القديمة رجالا ونساء فماذا يفعل حكامنا اليوم؟! يتغنون بها دون أن نري منها علي الأرض شيئا. إن ملوك مصر القديمة كانوا يملأون الأرض عدلا وخيرات وكان أهل مصر يعيشون مستقرين سعداء يمرحون علي شاطئ النهر في المساء ويعملون بكل جد واجتهاد في الصباح, وكان علماؤها وكهنتها يصنعون التقدم في كل مجالات الحياة ولا تزال معجزاتهم المعمارية والعلمية شاهدة علي عبقريتهم وإنجازاتهم الحضارية التي لم نصل بعد رغم كل التقدم العلمي في عصرنا إلي معرفة أسرارها وفك طلاسمها. يا صديقي لقد أفاض المصريون القدماء ملوكا وشعبا علي الإنسانية كلها بالمعرفة والتقدم العلمي والنظام السياسي المستقر لآلاف السنين من خلال اتفاقهم علي كلمة واحدة هي العدالة الماعت, فكانت هي دستورهم ومطلبهم حكاما ومحكومين, ولتنظر أخيرا إلي خطاب التكليف الملكي للوزير الأول حينما يعينه وهو يقول له: تبصر في وظيفتك وكن يقظا لمهامها فهي الركن الركين لكل البلاد.إنها ليست حلوة المذاق بل إنها مرة فالوزير الأعظم هو النحاس الذي يحيط بذهب سيده ثم يحذره من أنه وإن كان يمثل مكانة بارزة في الدولة فإن الماء والهواء يخبران الآن بكل ما يفعله, فعليه إذن أن يراعي الصدق والعدالة وألا يتواني أبدا عن إقامة العدل لأن الناس ينتظرون العدل في تصرفات الوزير. أين نحن الآن من كل ذلك يا صديقي, إن المصريين القدماء صنعوا أعظم الحضارات الإنسانية وأكثرها تقدما علي وجه الأرض منذ ذلك التاريخ وحتي الآن بدليل أننا لا نزال نعجز عن فهم إنجازاتهم الجبارة في مجالات العمارة والطب والتحنيط والفلك والهندسة وغيرها من العلوم. فما بالنا الآن نعجز عن بناء نظام سياسي جديد يحترم فيه الجميع الدستور والقانون!! ما بالنا نعجز عن أن نتلاحم ونترابط كما كان أجدادنا هؤلاء ونحيا حياة الكل في واحد!! ما بالنا لا نستطيع أن ننحي مصالحنا الآنية الوقتية في سبيل مصلحة الوطن الذي نعيش علي أرضه ونلتحف بسمائه وننعم بخيراته!! ما بالنا لا نستطيع أن نحقق العدالة والنظام رغم أننا لدينا بالإضافة إلي الميراث الحضاري العظيم ونواتج التقدم الإنساني الرائعة, شرائع الله السماوية. المزيد من مقالات د. مصطفي النشار