لا مراء في أن مصر تعاني من معضلة جيواستراتيجية كبري في تعاملها مع محيطها الجنوبي. وعلي الرغم من امتلاكها لأكبر قوة عسكرية في القارة الإفريقية فإن متطلبات الأمن القومي المصري تتجاوز اعتبارات القدرة علي حشد القوات المسلحة لمواجهة أي خطر خارجي. لعل ما يوضح هذه المعضلة الأمنية بجلاء استنادا إلي الخبرة التاريخية منذ بداية الدولة المركزية في مصر هو أن المخاطر النابعة من محيطها الشمالي الشرقي كانت ولا تزال تهدد وحدة الدولة واستقرارها, أما المخاطر النابعة من محيطها الجنوب إفريقي فإنها تستهدف بنية المجتمع المصري نفسه ووحدته العضوية. ارتباك المشهد السياسي الداخلي في مصر بعد ثورة25 يناير بما ينطوي عليه ذلك من انقسام واضح في الرؤي حول إدارة المرحلة الانتقالية وبناء المؤسسات الديمقراطية يفضي لا محالة إلي ضرورة إعادة النظر في قائمة أولويات الأمن القومي المصري في المحيط الإفريقي. ولا يخفي أن هذا الارتباك الداخلي في مصر يصاحبه في نفس الوقت حالة من السيولة وإعادة الصياغة الجيواستراتيجية في منطقتي القرن الإفريقي وحوض النيل, وهو ما تجسده التفاعلات الاقليمية والدولية في دول مثل السودان والصومال والكونغو الديمقراطية. أولا: ضمان وحدة السودان وبقاؤه ظهيرا استراتيجيا لمصر. إذ لا تخفي أهمية السودان بالنسبة لمصر علي مختلف الأصعدة الاستراتيجية والحضارية. إنه نقطة التقاء عوالم ثلاثة هي العربية والإفريقانية والاسلام. ولا شك أن انفصال دولة الجنوب ووجود نزوع قوي لدي نخبتها الحاكمة للتوجه نحو شرق إفريقيا غير العربي يطرح تساؤلا مهما لدي صانع القرار المصري حول ما إذا كانت حكومة جوبا في جنوب السودان ستحافظ علي مضمون الظهير الاستراتيجي لمصر. ولعل ذلك يتطلب تبني سياسات مصرية جديدة للحفاظ علي دولتي السودان من خلال المشاركة في جهود بناء الثقة بين القيادة السياسية الحاكمة في البلدين وعدم ترك الأمور لتصل إلي حد المواجهة المسلحة بينهما. وما يزيد الأمور تعقيدا أن عمليات التدافع الدولي في إفريقيا بشكل عام سواء تحت دعاوي الحرب علي الارهاب أو القرصنة أو حتي التنافس علي الموارد الطبيعية قد تؤدي إلي تفكيك السودان. فإقليم دارفور لا يزال مستعصيا علي التسوية السلمية وأضحت حركات التمرد الدارفورية- من خلال الاستقواء بالخارج- تميل إلي تبني منطق المباراة الصفرية, أي الحصول علي كل شيء أو خسارة كل شيء, وهو مالا يترك فرصة للحلول التوافقية المبنية علي عملية تفاوض حقيقية. ولعل هذه التفاعلات والتحركات التي تحدث علي حدود مصر الجنوبية تكفي مبررا لإرباك صانع القرار المصري وتتطلب ضرورة اتخاذ موقف أكثر حسما لمواجهة أي مخاطر تلوح في الأفق القريب أو البعيد علي حد سواء. ثانيا: ضرورة تحييد إثيوبيا والمحافظة علي توازن القوي في منطقة القرن الإفريقي. فقد أفضت عمليات إعادة الصياغة الجيواستراتيجية للقرن الإفريقي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة إلي تغيير معادلة توازن القوي الاقليمي حيث أدت الحرب الأهلية في الصومال وانهيار الدولة إلي صعود إثيوبيا التي نظرت إليها الولاياتالمتحدةالأمريكية والدول الغربية بحسبانها حليفا استراتيجيا يتم التعويل عليه في محاربة الارهاب والقرصنة والوقوف في وجه الحركات الراديكالية الاسلامية التي أرقت دولا إفريقية في المنطقة مثل كينيا وأوغندا والصومال. ويمكن تلمس بعض ملامح هذا المشهد من خلال التعرف علي حقيقة الدور الإثيوبي داخل الصومال وتنامي المكانة القارية لإثيوبيا نظرا لاعتبارها دولة المقر للاتحاد الإفريقي, بالإضافة إلي الدعم التقني والعسكري الذي تتلقاه من الغرب والولاياتالمتحدةالأمريكية. وإذا ما علمنا حالة الضعف الاستراتيجي لكل من السودان والصومال فإنه من المتعين علي مصر أن تدخل في حوار استراتيجي حقيقي مع إثيوبيا باعتبارها من دول الأركان في المحيط الاستراتيجي المصري. ولعل مثل هذا الحوار يتطلب صياغة أسس جديدة للعلاقة تأخذ طبيعة المتغيرات الاقليمية والدولية وتستهدف في نهاية الأمر إقامة شراكة متكافئة بين البلدين بعيدا عن الوقوع في إسار شكوك الماضي البعيد أو إعمال منطق التهديد والوعيد. ثالثا: الدفاع عن الحقوق المائية بما يحافظ علي معدلات تدفق النيل المعتادة عند أسوان. ولعل ما يزيد من حالة الارباك الاستراتيجي المصري هو ظهور تحد حقيقي للمصالح المائية المصرية. فقد تمردت دول حوض النيل بشكل يكاد يكون جماعيا لأول مرة وطالبت بالتخلي عن النظام القانوني الحاكم لنهر النيل من خلال التوقيع علي الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل( اتفاق عنتيبي) عام.2010 وبعيدا عن منطق المؤامرة نجد أن المتغيرات الداخلية في دول حوض النيل مثل زيادة عدد السكان وتغير المناخ قد أدت إلي زيادة الطلب المحلي في هذه الدول علي مياه النهر, كما أن ركون الحكومات المصرية المتعاقبة علي منطق الحقوق التاريخية المكتسبة في الدفاع عن حقوق مصر المائية قد دفعت جميعها إلي خلق رأي عام إفريقي معاد لمصر حيث شاع بين النخبة والرأي العام في دول حوض النيل أن مصر تحاول الاستئثار بموارد النيل وحدها دون أي اعتبار لحاجة الدول النيلية الأخري. علي أن دخول قوي دولية جديدة مثل الصين معترك التنافس الدولي علي الموارد الطبيعية في حوض النيل يطرح تحديات أخري أمام المصالح المائية المصرية. فالصين مستعدة لتقديم التمويل والمشاركة في مشروعات البنية الأساسية لدول حوض النيل علي أساس ثنائي ودون أي مشروطية سياسية, ولعل ذلك يخالف منطق التعامل الدولي السابق الذي كان يتطلب ضرورة الموافقة المصرية علي تمويل أي مشروعات في دول حوض النيل. ولا شك أن هذا المتغير الجديد سوف يحدث مزيدا من الارتباك في الموقف الاستراتيجي المصري. واستنادا إلي كل ما سبق فإن هذه البيئة الاستراتيجية المتغيرة والتي تموج بالتفاعلات الداخلية والاقليمية والدولية تفرض علي مصر ضرورة التحرك السياسي والدبلوماسي لإقامة تحالفات جديدة وللمشاركة بفاعلية في عملية إعادة الصياغة الجيواستراتيجية لمحيطها الاقليمي في إفريقيا. ويمكن في هذا السياق التنسيق مع القوي الصاعدة والإقليمية المؤثرة مثل تركيا والصين وجنوب إفريقيا وإثيوبيا وذلك بهدف التخفيف من آثار التدافع الأمريكي والغربي الذي يستصحب معه النفوذ الاسرائيلي في إفريقيا. ولعل هذه التحديات الجديدة تفرض علي مصر ضرورة انتهاج سياسات جديدة ابداعية في المجال السياسي والدبلوماسي بحيث توظف أدوات القوة الناعمة المصرية توظيفا صحيحا في إطار المحيط الاستراتيجي الإفريقي لمصر. فهل يرتقي الفكر الاستراتيجي المصري لمستوي هذه التحديات الكبري؟! المزيد من مقالات د. حمدى عبد الرحمن