إن ثورة25 يناير التي أطاحت بنظام الاستبداد في مصر, أحدثت تحولات فارقة في كيفية رؤية مصر لذاتها وللآخرين وهو ما يعني عودة الروح للدور الإقليمي الفاعل لمصر ولاسيما في محيطها الإفريقي. فهل يمكن أن يؤدي ذلك إلي تحطيم الصور النمطية السائدة عن مصر في إفريقيا؟ وكيف يتسني لمصر الثورة أن تدافع عن أمنها المائي؟ وما العمل لمواجهة تحديات تبني سياسة إفريقية جديدة لمصر في مرحلة ما بعد الثورة.؟ لاشك أن الاجابة علي كل هذه التساؤلات ترتبط بضرورة تأكيد الوجه الإفريقي لمصر بما يعني عمق الانتماء المكاني والحضاري. ولا يخفي أن التطورات المهمة التي شهدتها بعض دول الجوار الإفريقية مثل الصومال واثيوبيا تطرح فرصا وتحديات أمام صانع القرار المصري من أجل اعادة الروح للدور الاقليمي المصري في محيطه الإفريقي. فثمة ارادة دولية واقليمية لإنهاء التراجيديا الصومالية بإقرار دستور جديد وحكومة مركزية منتخبة, كما أن وفاة رئيس الوزراء الاثيوبي ميليس زيناوي في20 أغسطس الماضي والمعروف بأنه الحليف القوي للغرب في منطقة القرن الإفريقي قد يمثل أيضا فرصة لإعادة الاعتبار لمصر كقوة إقليمية كبري تستطيع الحفاظ علي مصالحها القومية, لأن مصر الثورة بحاجة الي بناء استراتيجية كبري للتوجه الجديد صوب افريقيا, ولن يتأتي ذلك إلا من خلال تشكيل هيئة عليا للشئون الأفريقية تكون تابعة مباشرة لمؤسسة رئاسة الجمهورية. يبدو أن أخطر التحديات التي تواجه مصر بعد رحيل مبارك تتمثل في أمنها المائي حيث قررت دولة بوروندي في فبراير 2011 التوقيع علي اتفاق التعاون الإطاري لدول حوض النيل الذي يتم التفاوض بشأنه منذ عام. 1999 ولتجاوز أخطاء الماضي في التعامل مع ملف مياه النيل ينبغي اتخاذ ما يلي: أولا: التعرف علي وفهم التطورات التي شهدتها دول أعالي النيل منذ نهاية فترة الحرب الباردة. فقد ظلت مقولات عدم الاستقرار السياسي وانتشار الصراعات الاثنية في دول حوض النيل هي التي تحكم توجهات السياسة الخارجية المصرية تجاه أفريقيا في عهد مبارك. وأحسب أن ذلك يمثل خطأ استراتيجيا فادحا. فقد استطاعت أثيوبيا منذ عام 1991 أن ترسخ دعائم قوتها الإقليمية في ظل انهيار الصومال من جهة وانقسام السودان إلي دولتين من جهة أخري. كما أن كينيا بتوجهاتها البراجماتية تسعي لقيادة تجمع شرق إفريقيا. ثانيا: تجاوز المنظور الأمني في التعامل مع قضايا السودان ودول حوض النيل. فمن المعلوم أن ملف السودان تحديدا كان يقع تحت إدارة المخابرات العامة المصرية وليس وزارة الخارجية, ولا شك أن إطلاق يد الأمن المصري في اتخاذ القرارات المتعلقة بالدور المصري في أفريقيا ولا سيما منذ محاولة اغتيال مبارك في أديس أبابا عام 1995 قد مثلت أهم عوامل تقويض الدور المصري في حوض النيل ورفريقيا عموما. ثالثا: اعادة الاعتبار للعلاقات المصرية الإثيوبية باعتبار أن إثيوبيا من دول الأركان الأساسية لمصر. ولاشك أن اختفاء ميليس زيناوي الذي كان يحلم ببناء دور امبراطوري لبلاده في شرق إفريقيا برعاية أمريكية وغربية يمثل فرصة مناسبة أمام مصر لإعادة التفاوض حول ملف المياه وتفعيل الوجود المصري في قضايا القرن الإفريقي وحوض النيل. لكن ما هي البدائل المتاحة أمام مصر في مرحلة ما بعد مبارك لتأمين مياه النيل؟. يمكن تصور بدائل ثلاثة يشكل كل منها سيناريو محتمل الوقوع بدرجة أو بأخري. يذهب أول هذه البدائل إلي اللجوء إلي اختيار القوة المسلحة في مواجهة السدود الإثيوبية وهو ما يعني الدخول في حرب مفتوحة مع إثيوبيا بسبب المياه. علي أن هذا الاحتمال غير واقعي بسبب المعطيات السائدة في مصر بعد الثورة نظرا لأنه يتطلب المزيد من الموارد ويفقد مصر مكانتها الأخلاقية في المجتمع الدولي. أما البديل الثاني فيذهب إلي إقامة تحالف مصري مع دول النيل الأبيض وهي أوغندا ودولتا السودان وذلك في مواجهة الهيمنة الإثيوبية علي النيل الأزرق. غير أن تأثيرات هذا الخيار المصري تفضي إلي حالة من الحرب الباردة بين كل من مصر وإثيوبيا بما يعنيه ذلك من تقويض لدعائم الأمن والاستقرار الإقليمي في المنطقة. ولعل البديل الثالث يشير إلي التعاون المصري الإثيوبي حيث إن مصر أكثر تقدما من إثيوبيا وتتمتع بتنوع مصادر اقتصادها الوطني. أما إثيوبيا فلديها إمكانيات هائلة لتخزين المياه من النيل الأزرق وهو ما يعني تعظيم استفادة مصر من هذه المياه. يمكن تصور عدد من المداخل التصحيحية لإعادة الاعتبار للوجه الإفريقي المصري ومن ذلك, تأسيس رؤية إستراتيجية جديدة تعتمد علي التخطيط السليم واستخدام قوة مصر الناعمة من أجل تحقيق المصالح الحيوية لمصر في إفريقيا علي المدي البعيد. وتغيير الصور الذهنية والقوالب الجامدة التي تميز الإدراك المتبادل بين المصري من جهة والأفارقة من جهة أخري. وكذلك تأسيس شراكة إستراتيجية بين مصر وإفريقيا. إذ يلاحظ أن القوي الدولية الصاعدة في النظام الدولي مثل الصين والهند والبرازيل وحتي الدول الإقليمية الكبري مثل تركيا وإيران وإسرائيل تتدافع جميعها علي إفريقيا وتؤسس لعلاقات إستراتيجية كبري مع الدول الإفريقية. فضلا عن تحقيق الأمن الغذائي وتأمين مياه النيل. علي مصر الثورة أن تؤسس لمرحلة جديدة تعتمد من الناحية الإستراتيجية علي التوجه جنوبا نحو إفريقيا. ويمكن في هذا السياق التمييز بين دوائر فرعية أربع للحركة المصرية. أولها تشمل السودان بدولتيه وهو ما يعني إعادة طرح مشروع التعاون الاستراتيجي بين مصر والسودان من منظور جديد لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية المشتركة. أما الدائرة الفرعية الثانية فإنها تشمل دول منظومة حوض النيل بما يعني ضرورة تحقيق التعاون المشترك لضمان مصالح مصر المائية. وتشمل الدائرة الثالثة الفرعية الكتلة الإسلامية الضخمة في غرب أفريقيا حيث تمتلك مصر رصيدا تاريخيا وثقافيا رصينا مع دول هذه المجموعة, وهو ما يعني إمكانية الاستفادة منه لتحقيق آفاق جديدة للتعاون المشترك. ومن جهة أخري لا يمكن تجاهل وجود قوي إقليمية صاعدة في أفريقيا مثل أثيوبيا وغانا ونيجيريا وجنوب أفريقيا وهو ما يشكل دائرة فرعية رابعة للحركة المصرية تجاه أفريقيا. المزيد من مقالات د. حمدى عبد الرحمن