في الأول من ديسمبر أعلن رئيس الجمهورية في عجالة عن دعوة الشعب للاستفتاء علي مسودة الدستور في الخامس عشر من الشهر نفسه.. وجاء خطاب الرئيس صادما فانتفضت القوي المدنية علي اختلاف أطيافها معلنة ليس فقط الرفض المطلق لتلكم الوثيقة والاستفتاء عليها, وقد غاب عنها التوافق وجاءت معظم موادها ضبابية فضفاضة مليئة بالتشوهات, ويضم بعضها نصوصا حاكمة تثير قلقا مشروعا علي هوية الدولة والمجتمع, بل أيضا الإصرار علي إلغاء الجمعية التأسيسية التي أخرجتها بحسبان ما يصيبها من عوار في الأساس وأن ما يصدر عن باطل لا يكون إلا باطلا منعدما, وإلغاء مجلس الشوري والإعلان الدستوري الصادر في الحادي والعشرين من نوفمبر الذي حصنهما بغير استحقاق.. واحتدم الصراع وماجت الميادين بالمتظاهرين المحتجين والمعتصمين, وامتدت لتحاصر محيط قصر الرئاسة وشهد يوم الأربعاء الخامس من ديسمبر مساء حالك السواد بدا وكأننا أمام غزوة جهادية نواجه فيها التتار أو الصهاينة.. استخدم السلاح وسالت دماء المصريين وسقط سبعة قتلي وأصيب نحو الألف مصري تحت سمع وبصر جهات سيادية.. يوم يسجله التاريخ خزيا وعارا يلاحق المسئولين عن التخطيط له والتنظيم والتمويل والحشد والإمداد بالسلاح والمولوتوف وغيرها من أدوات القتل وإشعال الحرائق. وفي محاولة لاحتواء الأزمة خاطب رئيس الجمهورية الأمة مساء اليوم نفسه ووجه دعوة مفتوحة للاجتماع به بعد ظهر يوم السبت الثامن من ديسمبر بهدف البحث عن مخرج من الحالة الملتهبة والتوصل إلي كلمة سواء تحقق توافقا عاما حول الموضوعات الخلافية.. وسرعان ما رفضت القوي المدنية الدعوة واشترطت الاستجابة لمطالبها الأساسية.. بينما قبلها وحضر جلسة الحوار نحو أربعين شخصية الغالبية العظمي منهم إما ينتمون مباشرة إلي تيارات الإسلام السياسي أو محسوبون عليه أو مناصرون له, وقليل لا يمثلون رموزا سياسية تمتلك قواعد مؤثرة بين الجماهير, ومن ثم لا ثقل لهم يحسب في ميزان العمل السياسي.. الأمر الذي جعل الحوار محاولة تجميلية منزوعة الصلة عن مطالب الشارع ورؤي النخبة الفاعلة التي تمثل قواعد القوي المعارضة. وفي مساء اليوم نفسه صدر عن المحاورين بيانا مفاده تأكيد إجراء الاستفتاء علي مشروع الدستور في موعده, وأن رئيس الجمهورية سوف يصدر إعلانا دستوريا جديدا يلغي الإعلان الصادر بتاريخ الحادي والعشرين من نوفمبر مع الإبقاء علي ما ترتب عليه من آثار.. وأصدر الرئيس الإعلان الجديد مساء اليوم ذاته. وفي هذا الصدد لابد لنا من ملاحظتين أساسيتين: الأولي إن البيان والإعلان الذي تبعه التفاف صريح ومقنن علي مطالب المعارضة لا يغير واقعا ولا ينسخ مرفوضا ولا يطفأ نارا ولا يزيل قلقا ولا ينفي شكوكا ولا يولد ثقة بقدر تعلق الأمر بمواقف السلطة والتيار الذي يساندها.. والثانية: أن الإعلان الدستوري الجديد يجذر للموضوعات الأساسية محل الجدل في الإعلان السابق والمتمثلة في تحصين تأسيسية الدستور ومجلس الشوري والإعلانات الدستورية التي صدرت أو يصدرها رئيس الجمهورية.. وهنا وجب توضيح أن الإعلانات الدستورية التي تولد محصنة, شأن الدستور ذاته, هي فقط تلك التي يقرها الشعب في استفتاء عام لكونه مصدر السلطات.. وبمفهوم المخالفة, لا حصانة لما يصدر عن أي سلطة أخري إذ يخضع لرقابة القضاء وسلطانه, بما في ذلك إمكانية التعديل والإلغاء, شأن التشريعات التي تقرها المجالس النيابية المنتخبة ويصدرها رأس الدولة المنتخب أيضا.. فالاستفتاء وحده أساس الحصانة والشعب المستفتي هو مصدرها وليس الانتخاب.. ومن هنا فإنه, باستثناء الإعلان الدستوري الصادر في مارس2011, لا حصانة لأي من الإعلانات الدستورية الأخري.. وعلي سبيل الاستتباع فإن ما ورد في الإعلان الدستوري قبل الأخير من تمديد للمهلة المحددة للجمعية التأسيسية بموجب إعلان مارس2011, وقع غير دستوري لأنه, مع انتهاء الحالة الثورية باستكمال المؤسسات الدستورية المنتخبة, لا سلطة لرئيس الجمهورية المنتخب في إصدار إعلانات دستورية أو تعديلها عن غير طريق الاستفتاء, ومن ثم فإن الاستناد إلي عدم دستورية تعديل موعد الاستفتاء علي مشروع الدستور, علي الرغم من كونه تنظيميا, يمثل تناقضا في فهم وتطبيق أحكام الإعلان الدستوري الواحد.. إن سلوكيات السلطة, بكل آلياتها وأدواتها, تجاه المشهد المشتعل في مجمله والدامي في بعض جوانبه, وموقفها من مسودة الدستور والإعلانات الدستورية, غير منزوع الصلة بمفهوم الشرعية واحترام المشروعية. ومع إدراكنا للجوانب المتعددة والمختلفة لمسئوليات الحكم وما يتولد عنها أو يفرض بموجبها, فإن أسلوب إدارة مسلسل الأزمات التي واجهتها وتواجهها الأمة منذ ميلاد الجمهورية الثانية والتصدي لقضايا أساسية يحتدم حولها الخلاف وتعمق الانقسامات وتعطل المؤسسات وتوقف العمل والإنتاج ويغوص معها وبسببها المجتمع والدولة في متاهات تنزلق بالوطن إلي حافة الخطر.. نقول إن هذا الأسلوب يعكس إما سوء المشورة أو ضبابية الرؤية أو التباطيء في رد الفعل واتخاذ القرار الضروري في الوقت المناسب, ويوحي بحالة من العشوائية والتخبط الذي لا يليق بدولة بقيمة مصر وقامتها.. وفي هذا السياق أجد لزاما تأكيد النقاط الجوهرية الآتية: إن شرعية الحكم ونظامه لا تكون إلا من خلال إرادة شعبية واعية لا يؤثر فيها عوز ولا تعجزها أمية ولا يفسدها تأثير.. وهي بغير ذلك إما منعدمة أو منقوصة ومشوهة ومشوبة بعدم المشروعية ويصبح الارتكان إليها أو الاحتماء بها أو التحصن فيها نوعا من التدليس والخداع. إن التأثير علي إرادة الناخبين استغلال الحاجة أو تسخير أو ابتزاز للأمية أو تزوير للمشاركة هو إجهاض للديمقراطية وتشويه لمقوماتها واختزال لمعطياتها واحتكار للسلطة وانحراف بها, وكلها تمثل في مفرداتها ومجملها الصورة الأكثر فجاجة والأشد قسوة والأبعد ظلما والأعمق أثرا لاغتصاب الشرعية. إن الدستور الذي لا يعبر بصدق عن الضمير الجمعي للأمة ويعلي إرادتها ويجلي تراثها ويعكس واقعها ويعظم طاقاتها ويحترم ثقافاتها ويلبي طموحات أبنائها ويواكب مقتضيات العصر, يأتي مشوها فاقدا للشرعية.. والدستور يكون كذلك حال إقراره بأغلبية بسيطة تقل عن ثلثي الأصوات الصحيحة للمشاركين في الاستفتاء الشعبي العام عليه, مع استلزام توافر شروط خاصة لمن يحق له المشاركة في ذاك الاستفتاء علي نحو يتطلب تجاوز مرحلة التعليم الأساسي.. فنحن أمام العقد الاجتماعي الأساسي للأمة وليس مجرد اختيار عضو في الهيئة البرلمانية أو حتي انتخاب لرئيس الجمهورية.. وأحسب أن قراءة واقعية للمشهد تنبأ بإقرار مشروع الدستور في استفتاء الخامس عشر من ديسمبر, غير أن هذا المشروع, حال إقراره, لن تتوافر له وفيه الشروط والظروف التي أشرنا إليها لتبعده عن النواقص والتشوهات وتجعله بحق معبرا عن العقل الجمعي الواعي للأمة جدير بالديمومة.. إن الإفراط في توظيف الدين لتحقيق مقاصد سياسية وعلي نحو يكفر المخالف أو يبشر البسطاء بالجنة أو يتوعدهم بالنار أو يدلس عليهم فيوحي إليهم بأن الخلافات السياسية في حقيقتها صراعات بين أنصار الشريعة الإسلامية والمناهضين لها الكافرين بها.. نقول إن هذا السلوك وتلكم الدعاوي والمغالطات لن تؤدي إلا إلي تعميق الخلافات ومزيد من الاحتقان والتشرذم. إن غرور الغلبة القاهرة بحكم حسن التنظيم والحشد, والتي أظنها مرحلية ما لم يحدث تحولا جوهريا ومتوازنا في الفكر والسياسة, والاستقواء بأدوات السلطة لن يقود أبدا إلي توافق ولن يخرج البلاد من عثرتها ولن يولد استقرارا أو يحقق أمنا واستنهاضا أو يوفر مناخا لنهضة مأمولة أستاذ القانون الدولي المزيد من مقالات د.عبد الحافظ الكردى