باريس تبقي هي باريس مدينة الجن والملائكة كما قال عنها عميد الأدب العربي طه حسين وهي عاصمة الكون وبقية الدنيا ضواحيها كما قال شاعرها الثائر العاشق فيكتور هوجو كل شئ فيها يحمل وجها ثقافيا حضاريا لم تعصف به امراض التكنولوجيا ولا التحديات المعاصرة.. ذهبت في زيارة قصيرة لم تستغرق اسبوعا بدعوة من جمعية الصداقة المصرية الفرنسية بمجلس الشيوخ الفرنسي وللمشاركة في مناظرة في معرض طولون الدولي للكتاب في مدينة طولون علي ساحل المتوسط مع السفير الفرنسي الشهير ايف اوبان دي لاميسوريير رئيس متحف مرسيليا لتاريخ البحر المتوسط والذي سيفتتح في بداية العام القادم.. ثلاثة لقاءات حافلة عشتها خلال هذا الإسبوع في رفقة د. احمد يوسف الباحث والكاتب وخلفه ثلاثون عاما من المتابعة في عاصمة النور.. كان السؤال الذي طاردني في كل هذه اللقاءات..ماذا يحدث في مصر الأن وماذا بعد ثورة يناير..وماهو مستقبل الثقافة المصرية في ظل التيارات الدينية المتصاعدة علي المستوي السياسي..وماذا عن الإخوان المسلمون وماهو مستقبل السلفية في مصر وهل تختفي اضواء مصر الثقافية في الإبداع والسينما والمسرح والفنون مع وصول الإسلاميين للسلطة؟.. كان الأمر الغريب حقا هو تلك الصورة السلبية التي وصلت للعالم الخارجي عن مصر..ان شوارع القاهرة اظلمت ولا يستطيع احد ان يمشي فيها ليلا لأن الجرائم تنتشر في كل مكان وهل صحيح ان هناك من يطالب بتحطيم الهرم وابو الهول وهل يقبل المصريون ذلك وماذا سيحدث والسلفيون الأن وليس الإخوان علي ابواب السلطة.. ولن تشاهد القاهرة بعد ذلك فيلما جميلا أو مسرحية جادة أو إبداعا راقيا واضافوا ان الثورة المصرية كانت عملا رائعا حرك خيال العالم كله ولكن كل الأشياء الأن تغيرت وبدت وراء الأفق وجوه اخري غير تلك التي انطلقت من ميدان التحرير ترسم فجرا جديدا لوطن جديد كان مهدا للثقافة والإبداع.. في جلسة حوار برئاسة السيدة كاترين موران ديسابي رئيسة جمعية الصداقة المصرية الفرنسية وعضو لجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشيوخ والسيدة باريزيا خياري وهي جزائرية الأصل ونائبة رئيس مجلس الشيوخ والسيدة كريستيان كاميرمان عضو لجنة الشئون الإجتماعية والسيد بيير ميشيل عضو لجنة التربية والتعليم والسيدة فرنسواز لابورد عضو لجنة الثقافة والإعلام بمجلس الشيوخ الفرنسي دارت كل هذه التساؤلات وسط مشاعر خوف جارفة علي مصر الثقافة والفكر والحضارة والتاريخ قلت: هذه الصورة التي اسمعها الأن لا علاقة لها بما يحدث في مصر فمازالت الشوارع مضيئة ومازالت دور السينما تعرض عشرات الأفلام ومازالت الأثار في مواقعها ومازال الحوار يجري في كل بيت حول مستقبل الإبداع المصري والثقافة المصرية العريقة وما يحدث الأن في مصر من الجرائم اقل بكثير مما كان يحدث قبل ذلك..لقد تغيرت اشياء كثيرة بعد ثورة يناير في مصر وعلينا ان ننتظر قليلا حتي يفرغ النهر من تطهير مجراه من الشوائب وقد كانت كثيرة ولكن دور مصر الثقافي حقيقة وواقع لن يتخلي عنه المصريون ايا كان الحكم الحالي أوالقادم.. ان المشكلة الأن ان الإعلام المصري ينقل صورة سيئة عن كل ما يجري فيها وهذه الصورة هي التي تشكل رأي الغرب ومواقفه حول ما يحدث دون محاولة للبحث عن الحقيقة وبجانب هذا فإن بعض المصريين يقدمون للإعلام الغربي صورة قاتمة عن المستقبل وهذا يطرح دائما هذا السؤال لدي الدوائر الغربية..مصر إلي أين. قلت: هناك ارتباك في الشارع المصري علي مستويات كثيرة ولكن ذلك يبدو شيئا عاديا بل متوقعا امام مجتمع يتغير بعد ثورة اهتزت بها اركان كل شئ.. ان الغريب في الأمر ان الغرب لم يتحدث يوما ولم يقلق علي الشعوب العربية وهي تعاني عصور الإستبداد والقهر في ظل انظمة فاسدة ساندها الغرب بكل قوة ان المطلوب الأن ان يراجع الغرب سياساته.. نحتاج من الغرب ان يفرج عن الأموال المنهوبة في سنوات الإستبداد ويعيدها إلي الشعوب.. مطلوب من الغرب ان يقف مع الشعوب ويساندها ضد كل نظام مستبد فاسد.. مطلوب من الغرب ان يكون شريكا لنا في البناء والتنمية وليس في السجون والمعتقلات وإهدار آدمية البشر..نحن الأن علي ابواب تاريخ جديد وهناك تيارات سياسية متعارضة بل متناقضة ونحن نراجع المواقف ونستكشف الآفاق..التيارات الدينية تعيش نشوة الإفراج عنها ولكنها بدأت تفيق وتعيد حساباتها والتيارات الليبرالية تعاني عزلتها في الشارع وبدأت تعود إليه ولكن الخريطة تتغير..ان الشئ المؤكد ان مصر لن تكون يوما دولة ظلامية كما يتصور الإعلام الغربي.. ان طبيعة مصر وموقعها وشعبها وتركيبتها الحضارية تؤكد ان دورها الثقافي والفكري والديني سوف يبقي هاديا للآخرين سواء جاء حكم إسلامي أو جاء حكم ليبرالي لأن الشعب في النهاية سيكون صاحب الكلمة والقرار.. كانت مصر من اكثر شعوب العالم التي اعترفت بالآخر وتاريخ الأجانب في مصر واضح وصريح.. ان اسرة محمد علي لم تكن مصرية وحكمتها مائة وخمسون عاما.. وكفافس شاعر اليونان العظيم عاش حياته في الأسكندرية ودفن فيها.. واستقبلت مصر في الحرب العالمية الثانية مئات الالاف من المهاجرين الأوروبيين عندما كانت اوروبا تحترق. قلت ليس بيننا وبينكم صراع ثقافي اوديني لأن الثقافة في حقيقتها دعوة للحوار المترفع ولأن الدين الإسلامي يشترط علي المسلم لكي يكتمل إسلامه ان يحترم عقائد الآخرين ان الصراع الحقيقي صراع علي المصالح والسياسات ومنذ ظهر البترول في بلادنا واقيمت إسرائيل تغيرت كل الحسابات. وقلت: لا تخافوا علي مصر الثقافة والحوار لأننا شعب يعشق الحياة بالفطرة ويؤمن بالحوار والذي شاهد ثورة يناير وشبابها الرائع يدرك ان المصريين لن يقبلوا فرعونا آخر أو مستبدا جديدا تحت أي شعار أو اي فكر..ان المهم الأن ان يغير الغرب مواقفه فلا يساعد ديكتاتورا جديدا ولا يفرض علي الشعوب حاكما مستبدا ولا يقبل في بنوكه ومؤسساته اموالا فاسدة وهو يعلم انها حق للشعوب المظلومة.. نحن في حاجة إلي من يأخذ بيدنا للبناء ولسنا في حاجة لمن يستخدم بلادنا ارضا للتعذيب أو امتهان كرامة البشر. في مناظرة مع السفير الفرنسي ايف اوبان دي لاميسوريير في معرض الكتاب الدولي بمدينة طولون كان الرجل واضحا وصريحا وهو يؤكد دعمه لحقوق الشعب الفلسطيني وقال ان ما يحدث في غزة الأن جرائم اعتادت عليها إسرائيل وانها تخشي الأن نجاح ابو مازن في معركته في الأممالمتحدة وان علينا ان ننسي التاريخ وما حدث من إخفاقات في القضية الفلسطينية وان عرفات ظل مدافعا عن القدس من أجل المسلمين والمسيحيين معا وان علي امريكا ان تخفف قليلا من دعمها لإسرائيل, وقال السفير الفرنسي الشهير ان التوقعات في الغرب منذ فترة بعيدة ان الإسلاميين سوف يصلون إلي السلطة وهذا ما حدث في تونس ومصر ولكن الخلاف الأساسي بين البلدين ان السلفيين في مصر حققوا نتائج غير متوقعة وان الغرب كان دائما علي إستعداد لأن يتعامل مع الإخوان المسلمين ولكن السلفيين شئ آخر..وتوقع صداما بين فكر الإخوان وفكر السلفيين في مصر في الفترة القادمة.. ولم اتردد في ان اقول ان النظام السابق هو الذي يتحمل مسئولية ظهور التيارات الإسلامية بهذه الكثافة لأن السجون والمعتقلات كانت هي المناخ الذي ظهرت فيه هذه القوي بعد ذلك وان القمع والإستبداد يتحملان مسئولية انتشار التيارات الدينية بهذه الصورة. وقلت ان الساحة المصرية سوف تشهد توازنا حتميا بين التيارات السياسية المختلفة بحيث يحصل كل فصيل علي موقعه في خريطة القوي السياسية بما في ذلك الإخوان والسلفيون والليبراليون والقوي الوطنية الأخري. وقلت: ان الدين جزء اصيل في تكوين الشخصية المصرية وهذه التيارات الدينية ليست جديدة علينا ولكن الجديد هو بعض الظواهر الوافدة التي لم يكن لها في يوم من الأيام وجود في الشارع المصري كان اللقاء الثالث في جمعية اصدقاء قناة السويس وهي تضم اكثر من300 عضو منهم المصريون والفرنسيون ويرأسها السيد ارنو راميير دي فورتانين اما نائب المدير فهو الأمير المصري حسين طوسون حفيد سعيد باشا ومن اهم اعضائها انطوان ديلسبس حفيد المهندس الفرنسي ديلسبس صاحب مشروع قناة السويس.. في متحف قناة السويس في الشركة العالمية الضخمة كل الوثائق واللوحات الخاصة بالقناة وكأنها رسمت بالأمس عن حدائق الإسماعيليةوالسويس ومباني وفيلات بورفؤاد وحفل إفتتاح القناة والخديوي إسماعيل وحسناء فرنسا أوجيني وفي المتحف التاريخي الكبير اثار ديلسبس وزوجته الثانية ابنة العشرين ربيعا التي تزوجها بعد ان تجاوز الستين وانجب منها12 ابنا..هناك مشروع مشابه يجري الإعداد له الأن مع المسئولين في قناة السويس والفريق مهاب مميش رئيس الهيئة وهو إنشاء متحف في مصر لأثار القناة في مبني إدارة الشركة القديمة في مدينة الإسماعيلية وسوف تتولي الشركة الفرنسية تمويل هذا المشروع بحيث يضم الآثار التاريخية لقناة السويس.. المسئولون في المؤسسة العالمية الضخمة المتخصصة في صناعة الطاقة الشمسية والنووية لديهم طموحات كثيرة لمساعدة مصر الثورة خاصة في مستقبل الطاقة الشمسية وهي تمثل المستقبل الحقيقي وقد بدأت ثلاث دول عربية في دراسة هذه المشروعات وهي تونس والجزائر وليبيا ومازال العالم ينتظر مصر في هذه الإستثمارات الضخمة التي تحتاجها اوروبا.. ان المفاعلات النووية الأوروبية الأن اصبحت تمثل خطرا حقيقيا جعل الحكومات تتجه إلي الطاقة البديلة وفي مقدمتها الطاقة الشمسية ومصر في مقدمة الدول التي تؤكد جميع المؤشرات انها تمثل المستقبل الحقيقي لهذا النوع من الطاقة وبجانب هذا فإن مشروع تنمية قناة السويس يحتل اهمية خاصة لدي الشركات الفرنسية الكبري.. رحلة سريعة إلي باريس ما بين قضايا السياسة ومستقبل التيارات الدينية ما بين الإخوان والسلفيين..ومستقبل الثقافة المصرية التي اضاءت دائما العقل العربي..ومستقبل السلام في ظل التشدد الإسرائيلي والحصار الدائم للشعب الفلسطيني في غزة ثم بعد ذلك هذا الخوف الشديد علي مصر من كل عشاق الحضارة والتراث في العالم.. وفي آخر اللوحة صور اكثر من130 كاتبا وشاعرا من كل انحاء العالم جمعتهم ندوات وامسيات ولقاءات في معرض طولون الدولي للكتاب.. رحلة سريعة ولكنها حملت سؤالا علي درجة كبيرة من الأهمية..مصر إلي أين..؟ ان هذا القلق الذي يتردد الأن في أكثر من مكان في العالم يؤكد حقيقة هامة ان مصر التاريخ والحاضر والمستقبل ستظل دائما محط انظار الكون كله ليس بتاريخها فقط ولكن بما يحمله لها المستقبل لأن الجميع يتساءل ماذا عن مصر الجديدة بعد ثورة اهتزت بها اركان العالم في كل مكان وهل ستكون الثورة رحلة بناء أم رحلة تراجع ؟. لهذا انسحبت من التأسيسية السيد المستشار حسام الغرياني رئيس الجمعية التأسيسية لإعداد الدستور تحياتي وتقديري كنت حريصا علي ان اشارك بأي جهد ولو متواضع في إعداد دستور يليق بنا بعد ثورة ابهرت العالم كله..كان شهداء الثورة ينظرون الينا من بعيد وفي عيونهم الكثير من العتاب والقليل من الأمل في ان تدرك النخبة المصرية خطورة اللحظة التي يعبر فيها الوطن وتحتاج إلي جهودنا جميعا..ولقد شاركت قدر استطاعتي في جلسات الجمعية التأسيسية وكانت لدي قناعة كاملة اننا قادرون علي تجاوز الخلافات والأغراض والمصالح من اجل إعداد الدستور.. وللأسف الشديد لقد بدا للجميع ان التوافق الذي كنا نحرص عليه اصبح هدفا بعيد المنال..وان توحيد الإرادة لكي نتجاوز هذه المحنة اصبح شيئا صعبا إذا لم يكن مستحيلا.. كان إنقسام النخبة علي نفسها بكل تياراتها الدينية والليبرالية والعلمانية اكبر خطيئة في حق الثورة وحق الشهداء إن وصاية الفكر هي أسوأ انواع الإستبداد واستخدام الدين في السياسة خطيئة كبري تدفع الشعوب ثمنها إستقرارا وامنا ورخاء. كان من الواضح ان هذا الإنقسام قد فتح ابوابا لصراعات لا اعتقد اننا الأن قادرون علي إخمادها امام رغبات محمومة من جميع اطراف اللعبة السياسية لإحتكار الحقيقة..لم تستطع النخبة المصرية ان تمسك بهذه اللحظة التاريخية وانقسمت علي نفسها وبدأت تصفي بعضها بعضا حيث لا هدف ولا وفاق..لقد بشرت سيادتكم بأن القوي السياسية في هذه الجمعية سوف تصل إلي صيغة وفاق تحقق لمصر دستورا تتحدث عنه اجيالنا القادمة بكل العرفان ولكن للأسف الشديد مع نهاية المشوار بدت الصراعات اعنف والخلافات اوسع والإنقسامات أشد.. كنت اتمني ان نكمل معا دستور مصر في لحظة يحسبها التاريخ لنا ولا يحسبها علينا ولكن يبدو ان الحلم كان اكبر من الإرادة. انني بكل اسف اعتذر عن إستكمال المشوار مع الجمعية الموقرة امام إنقسامات اراها تهدد مستقبل الوطن وليس إعداد الدستور وسوف يجئ وقت نراجع فيه مواقفنا واعمالنا وماآلت إليه احوالنا وساعتها سوف ندرك اننا لم نكن علي مستوي دماء الشهداء التي حررت إرادة هذا الشعب وان الشباب كانوا أكثر حكمة وتعقلا من اباء اشعلوا الفتن وقامروا بمصير الوطن من اجل اهداف شخصية واهية وحسابات خاطئة.. ارجو للجمعية الموقرة التوفيق واطلب من سيادتكم والأعضاء الموقرين إعفائي من إكمال هذه المهمة مع خالص شكري وتقديري... المزيد من مقالات فاروق جويدة