تتمة لمقالينا السابقين حول مسودة الدستور في الأول والعاشر من نوفمبر الحالي, نسوق اليوم ملاحظات أخيرة علي تلك المسودة , تتعلق بثلاثة جوانب: أولا: إطناب النص الدستوري المقترح: ويتجلي ذلك من تناوله تفاصيل كانت القوانين أولي بها, مثل المادة17 الخاصة بحماية المسطحات المائية والمحميات الطبيعية والآثار, والمادة20 بشأن التعاونيات والصناعات الحرفية والمادة24 حول الوقف الخيري والمادة61 الخاصة باكتشاف الموهوبين رياضيا ورعايتهم. علاوة علي ذلك, فإلزام المادة11 الدولة بالعمل علي تعريب العلوم والمعارف لا يستقيم مع حتمية الاندماج في المجتمع الدولي الذي اعترف عمليا باللغة الإنجليزية لغة للعولمة مع كامل اعتزازنا بلغتنا العربية الفصحي التي اختارها الله تعالي لكتابه الكريم ومن ثم فهذا النص يفرض عزلة علي الدولة, علي غرار ما فعله القذافي بليبيا والبعث بسوريا. ثانيا: الضعف اللغوي, فعلي سبيل المثال: وتتطلب المادة63 المنقولة حرفيا عن المادة66 بدستور1971 إعادة ترتيب لمراعاة الاتساق المنطقي, بحيث تكون العقوبة شخصية, ولا توقع إلا بحكم قضائي, ولا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون, ولاعقوبة إلا علي الأفعال اللاحقة لتاريخ نفاذ القانون. وتلزم المادة68 الدولة باتخاذ كافة التدابير التي ترسخ مساواة المرأة مع الرجل دون إخلال بأحكام الشريعة الإسلامية, ما يشير ضمنا إلي تعارض الشريعة الإسلامية مع المساواة بين الجنسين, الأمر الذي يجافيه الصواب بالنظر إلي أن الشرع الحكيم كان سباقا إلي إعلاء مبدأ المساواة بين البشر, ومن ثم فقد يكون الأنسب تعديل هذه المادة لتصبح إعمالا لمبادئ الشريعة الإسلامية. وكذلك تحظر المادة38 الإساءة أو التعرض للرسل والأنبياء كافة, حيث ثمة تحفظ علي مصطلح التعرض نظرا لقبوله تفسيرا واسعا قد يضيق من نطاق حرية الفكر والرأي والإبداع المنصوص عليها في المادتين التاليتين من جهة, ومن جهة أخري فليس ثمة خلاف جوهري مع إضافة ما يطالب به البعض من حظر الإساءة إلي الذات الإلهية والصحابة; إذ إنه مطلب يتسق والمادة الثانية من الدستور, حيث تحرم الشريعة الإسلامية الاستهزاء بالله والرسل والصحابة, وهو مقترح لا يهدد حرية الاعتقاد للمسيحيين; نظرا لأن العقيدتين الإسلامية والمسيحية تعظمان الله عز وجل وإن اختلفتا في الاعتقاد بصفته. من جهة أخري, طرحت المادة152 بنصين أول ومرادف, حيث أقر الأخير أن رئيس الجمهورية هو القائد الأعلي للقوات المسلحة, ولا يعلن الحرب ولا يرسل القوات المسلحة إلي خارج الدولة إلا بعد أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني, وموافقة مجلس النواب بأغلبية الأعضاء. وهذا النص المرادف أكثر اختصارا وإحكاما من النص الأول فيما يتعلق بموافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب علي إعلان الحرب, وكذلك أخذ رأي مجلس الدفاع الوطني قبل إرسال القوات المسلحة إلي خارج الدولة, وإن ما زلنا علي رأينا بالمقال السابق باستبدال مجلس الدفاع الوطني بمجلس الأمن القومي. ثالثا: القصور المنطقي: ومثال ذلك: حظر المادة29 إسقاط الجنسية المصرية عن مصري, الأمر الذي لا يراعي التوفيق بين اعتبارات الأمن القومي وحقوق الإنسان, لا سيما فيما يتعلق بالمصريين الذين يحملون جنسية أي دولة تشكل تهديدا للأمن القومي المصري حتي وإن لم تكن في حالة حرب مع مصر, وبالتالي فلهم حقوقهم السياسية وواجباتهم العامة في مصر, ومنها الترشح للانتخابات بجميع مستوياتها وأداء الخدمة العسكرية. والأنسب في تقديرنا- من أجل المساواة بين المصريين في الحقوق والواجبات العامة, وفي ذات الوقت حماية الأمن القومي والحفاظ علي النظام العام حذف ذلك النص من تلك المادة, بما يمكن معه إسقاط وحظر منح الجنسية المصرية لمواطني أي دولة غير عربية تحتل أراضي دولة عربية مجاورة لها وتمارس ضد مواطني تلك الدولة العربية أيا من جرائم الإبادة الجماعية أو الجرائم ضد الإنسانية وفقا للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. أضف إلي ذلك أن المادة163 اشترطت ألا يحمل الوزير جنسية دولة أخري, وهو ما يتضاد منطقيا مع مواد أخري بمسودة الدستور, لا تشترط الشرط ذاته لرئاسة الجمهورية ولا لعضوية البرلمان ولا المجالس المحلية, كما أنه يتنافي مع المنطق السياسي والتجربة التاريخية في العالم المتمدن من ربط المواطنة والحقوق السياسية بالتجنيد وأداء الخدمة العسكرية, ومن ثم فأبسط قواعد حقوق الإنسان تقتضي تمتعه بكامل حقوقه السياسية في الدولة التي تقدم ليبذل دمه في سبيلها, حيث يفند أداء الخدمة العسكرية مفهوم ازدواج الولاء, ويدحض النص المقترح من الأساس. علاوة علي عدم تعرض المادة184 الخاصة بدستورية قوانين الانتخابات لحالة عدم إصدار المحكمة الدستورية العليا لقرارها خلال خمسة عشر يوما من تاريخ عرض الأمر عليها, وهو ما يفتح بابا للسجال القضائي والتشريعي قد لا يطيقه الظرف الانتخابي المحكوم عموما باعتبارات الوقت. وتفويض المادة149 رئيس الجمهورية بتعيين الموظفين العسكريين وعزلهم, وتعيين الممثلين السياسيين للدولة, وهو نص يمكن تعديله لترسيخ المؤسسية في صناعة قرار الأمن القومي, وذلك استرشادا بالمادة49 من دستور1923 والتي نصت علي أن الملك يعين الممثلين السياسيين ويقيلهم بناء علي ما يعرضه عليه وزير الخارجية. ومن ثم يمكن النص علي أن يعين رئيس الجمهورية الموظفين العسكريين بناء علي اقتراح وزير الدفاع ويعزلهم, ويعين الممثلين السياسيين للدولة بناء علي اقتراح وزير الخارجية.... هذه الملاحظات تمثل أهم ما نأخذه علي مسودة الدستور, ويمكن للحوار حولها تحقيق توافق وطني, يضيف إلي إيجابيات هذه المسودة, ويجنب الشارع السياسي استقطابا حادا عشية الاستفتاء علي مشروع الدستور. والله من وراء القصد.