يمثل العدوان الإسرائيلي علي قطاع غزة حلقة جديدة في مسلسل الاعتداء المتواصل علي الشعب الفلسطيني وإضاعة ما تبقي من قضيته, لكن ما يحدث حاليا هو عرض لمرض أساسي يتمثل في غياب التسوية السياسية الحقيقية التي تحقق لإسرائيل الامن, وللفلسطينيين حقوقهم المشروعة وعلي رأسها إقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس. وهذا هو الضمان الحقيقي لتحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة والتهدئة في قطاع غزة. فالعدوان الإسرئيلي المسلح علي غزة ليس الأول ولن يكون الأخير, مادامت بيئة الصراع ومسبباته ظلت كامنة وقابلة للانفجار في أي لحظة, فهناك قضية شعب يخضع للاحتلال ويناضل من أجل استعادة حقوقه المشروعة, ولم تفلح جميع المحاولات في إنهاء معاناته وحل قضيته بصورة عادلة. ومنذ انطلاق عملية السلام في مدريد منذ أكثر من عقدين والمسار الفلسطيني الإسرائيلي يتراوح بين مسارين متقاطعين: المسار التفاوضي الذي شهد ماراثون من جولات التفاوض والمؤتمرات الدولية والجهود الدبلوماسية وإبرام العديد من الاتفاقيات, لكنها تحطمت جميعها نتيجة لعاملين, الأول أن إسرائيل تريد تحقيق السلام علي طريقتها, وليس السلام العادل والشامل والدائم, وتريد فرض منطقها وترجمة موازين القوي المختلة لصالحها إلي سلام مشوه ومنقوص, إضافة إلي منهجها في المراوغة والمماطلة في تنفيذ الاتفاقيات, والثاني أنها اتخذت من عملية السلام محاولة لإضاعة الوقت لتنفيذ مخططاتها في تهويد القدس وإقامة المستوطنات وضم مزيد من الأراضي لفرض أمر واقع, ساعدها في ذلك تراجع الدور الأمريكي وانحيازه للموقف الإسرائيلي, وكذلك حالة الضعف العربي والانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس. والمسار الثاني, هو مسار العنف والعدوان الإسرائيلي والمقاومة المسلحة الفلسطينية كرد فعل, لكن أيا منهما لم يستطع ان يكسر إرادة الطرف الآخر, حيث لم تفلح إسرائيل عبر سياسة العدوان علي غزة وقتل رموز المقاومة المشروعة, واجتياح غزة عام2008 ثم العدوان الحالي في تحقيق أهدافها في إجهاض القضية الفلسطينية أو كسر شوكة المقاومة, لأنها تنطلق من عقيدة راسخة تدافع عن الحقوق المشروعة التي كفلها القانون الدولي وكل الأعراف, بل علي العكس استطاعت المقاومة أن تطور من قدراتها العسكرية والصاروخية طويلة المدي والتي طالت لأول مرة تل أبيب والقدسالغربية, وهو ما يمثل تطورا نوعيا في المواجهة وانهيار نظرية الأمن والردع الإسرائيلي, ويعطي رسالة أن مراهنة تل أبيب علي تفوقها العسكري في إجهاض كل صور المقاومة الفلسطينية المشروعة أضحت خاسرة. ولذلك فإن الجانب الأخطر في العدوان الإسرائيلي الحالي علي غزة ليس فقط فيما يوقعه من جرائم قتل وتدمير لشعب, يعاقب عليها القانون الدولي والإنساني, تتطلب تكثيف الجهود العربية والدولية لإيقاف نزيف الدم المتواصل, وإنما الأخطر هو اختزال القضية الفلسطينية وتحويلها من مسألة كيف يمكن للشعب الفلسطيني أن يسترد حقوقه المشروعة وإقامة دولته, إلي كيف يمكن تحقيق التهدئة والهدنة بين إسرائيل وحماس, دون البحث عن علاج حقيقي لمسببات الصراع ومنع تكرار هذا العدوان عبر تسوية حقيقية وعادلة. ونجاح تلك التسوية يتطلب أن تتخلي إسرائيل عن منطق غطرسة القوي ونظرية أن الأمن والقوة هو الذي يخلق الاستقرار, بينما السلام العادل هو الذي يخلق الأمن والاستقرار, لكن هناك تحديات جمة تواجه ذلك, فالحكومة الإسرائيلية الحالية أشد الحكومات تطرفا في تاريخ إسرائيل في ظل التحالف بين الليكود اليميني المتشدد والأصولية الدينية, ومن الصعب أن تقدم تنازلات جوهرية وحقيقية, خاصة فيما يتعلق بالقدس والمستوطنات وحق العودة, كما أن نجاح التسوية يتطلب تحقيق المصالحة الفلسطينية بين فتح وحماس وإنهاء حالة الاستقطاب الحالية, والتي ساهمت في اختزال النضال الفلسطيني من صراع لتحرير الأرض إلي صراع علي السلطة, بل وتجاوز مبدأ أن الدم الفلسطيني خط أحمر, وهذه المصالحة باتت ملحة الآن لتوحيد الموقف الفلسطيني تجاه العدوان الإسرائيلي. وإذا كانت الظروف الإقليمية السابقة لم تساعد في إنضاج وإنجاز تلك التسوية, لكن في مرحلة ما بعد الثورات العربية ووصول أنظمة ديمقراطية منتخبة, خاصة في مصر, فإن خريطة الشرق الأوسط قد أخذت في التغير وتبدلت معها قواعد اللعبة القديمة التي كانت توظفها إسرائيل لتحقيق أهدافها, وهذا التغير السياسي في دول الربيع العربي من شأنه أن يدعم القضية الفلسطينية, فمن ناحية فإنه يفند مزاعم إسرائيل في أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة المحاصرة ببحر من الديكتاتوريات التي تستهدف بقاءها, ومن ناحية أخري افتقادها لحلفائها التقليديين من الزعماء العرب الذين كانوا يمثلون لها كنزا استراتيجيا في تحقيق مصالحها. ولذلك فإن الجهود الحالية التي تقوم بها مصر والدول الأخري خاصة الولاياتالمتحدة, ينبغي أن تتجاوز ليس فقط تحقيق التهدئة في غزة وهدنة بين الطرفين, إنما الأهم إحياء القضية الفلسطينية التي تم تغييبها والبحث عن تسوية حقيقية شاملة تنهي هذا الصراع التاريخي. وتؤدي الي إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس وهذا هو السياج الحقيقي لأمن اسرائيل ومواطنيها ولتحقيق الاستقرار والتعايش في المنطقة. المزيد من مقالات احمد سيد احمد