ختم جيمي كارتر الرئيس الأميركي الأسبق جولته في الشرق الأوسط بمقولتين مهمتين، عندما قال إن قادة حماس أبلغوه أنهم سيقبلون اتفاق سلام يتفاوض عليه الرئيس الفلسطيني محمود عباس، إذا أقر الفلسطينيون الاتفاق في استفتاء، وعندما قال أمام المجلس الإسرائيلي للعلاقات الخارجية إن المشكلة ليست في اجتماعه مع حماس، «وإنما رفض إسرائيل والولاياتالمتحدة الاجتماع مع هؤلاء الناس الذين يجب أن يكونوا معنيين».. والفلسفة وراء كل مقولة هى أن المفاوضات تظل الطريق الوحيد لحل الصراع العربى الإسرائيلي حتى بين أكثر الأطراف تشددا، مستندا في ذلك إلى أن تجارب التاريخ أكدت أن النماذج التي تتحدث عن التسويات والتنازلات تأتي فقط عندما يجلس الطرفان المتنازعان، وقد نزعوا عن أنفسهم كل شعارات الماضي والكراهية والتطرف، ويأتي بدلا منها الاستعداد المتطرف للتسوية على حد تعبير جدعون ليفي في «هاآرتس» 21 أبريل الماضي، وهكذا مثلا فعل نيلسون مانديلا في جنوب إفريقيا، وقادة جيش التحرير الأيرلندي ومناحم بيغين وياسر عرفات.
أي أن ما يعدون في الأمس البعيد متشددين هم أول الناس الذين يقبلون على المفاوضات وينجزون تسويات سياسية مهمة، وذلك عندما يتولد لديهم الاقتناع والاستعداد لذلك. والمعنى أنه ليس هناك تشدد مطلق وأبدي لأن أى صراع لا يحسمه الحل العسكري في كل حال، وإنما التفاوض السياسي. ومن جانب آخر فإن كارتر يقول لكل المعنيين بإعادة السلام إلى الشرق الأوسط إن المشكلة ليست في حماس، وإنما في سياسة كل من إسرائيل وأميركا الحالية باعتبارها سياسة لن تجدي نفعا، ومن ثم عليهم العمل في مسار آخر مختلف، وعليه فإن أى تقدم منتظر لن يتحقق إلا بعد أن تتغير سياسة كل من البلدين.
لم يطرح كارتر نفسه في جولته التي شملت مصر وإسرائيل وسوريا والأردن والسعودية كوسيط أو مفاوض رسمى، وإنما كقيادة سياسية مرموقة أميركيا وعالميا، تستطلع حدود التأييد والرفض عند حماس تحديدا في أي عملية سلام مفترضة مستقبلا، بالنظر إلى أنها قوة سياسية فلسطينية مؤثرة ولها دور في هذه العملية، سواء شاءت إسرائيل أم الإدارة الأميركية الحالية أم لا. وقد لاحظ المتابعون للجولة أن الرجل جعل هدفه الأساسي منها اللقاء مع قادة حماس سواء الاجتماع مع الزهار وصيام في مصر، أو مع خالد مشعل في سوريا، وصحيح أنه تضمن ذلك لقاءات أخرى مع قيادات الدول العربية التي زارها، ونائب الرئيس الإسرائيلي، إلا أن ذلك كان من منطلق اللياقة السياسية والدبلوماسية ليس إلا حتى لا تعتبر العواصم العربية مبادرته تجاوزا لما تجريه بدورها من جهود لحلحلة الموقف في الشرق الأوسط، وحتى يضفي على لقاءاته مع حماس طابعا شرعيًا بما يجعلها مقبولة ومرحبا بها من قادة هذه العواصم العربية. ولكن التركيز كله ظل على حماس التي تعتبرها أميركا وإسرائيل خصما يعوق التقدم في عملية السلام.
ومع أن الرجل وصف تحركاته بأنها استطلاعية بالنظر إلى أنه ليس شخصية رسمية وليس معنيا بدور الوسيط لإنجاز تسوية سياسية كالتي حدثت بمشاركته في كامب ديفيد 1979 بين مصر وإسرائيل، إلا أن مكانته السياسية وخبرته الطويلة بمسار الصراع العربى الإسرائيلي وطرحه المختلف تماما مع السياسة الحالية لإدارة بوش ومع السياسة الإسرائيلية عموما على مدى العقدين الماضيين أكسبت تحركاته أهمية كبيرة لم ينكرها أحد، ولم ينجح الاستياء الأميركي الرسمي ولا المقاطعة الرسمية الإسرائيلية في تقليل شأن ما قام به كارتر وما وصل إليه من نتائج بما جعل هذه التحركات في مستوى المبادرات الرسمية بل وأقوى منها.. لقد أجرى عمليا نموذجا سريعا لمسار مختلف لعملية السلام وتعمد اختبار مقوماته وفرص نجاحه منطلقا من قناعة راسخة بأن المفاوضات كفيلة في حد ذاتها بتذليل الكثير مما يبدو على السطح عقبات صعبة يتعذر تجاوزها. وفي الحقيقة لم يكن معنيا بالدخول في نيات حماس عما إذا كانت صادقة في استعدادها للتفاوض أم مراوغة، وإنما كان معنيا بإعادة التأكيد على صحة المفهوم وخطأ الطرفين الآخرين: إسرائيل وأميركا وبإيجاد مناخ سياسي مختلف يسمح بتقدم المفاوضات وليس الانصياع للحل الأمني الذي تنتهجه الدولتان في مواجهة الفلسطينيين، ولذلك فإن مبادرته التي طرحها على حماس تضمنت صفقة متكاملة تجمع بين موقف حماس من أي مفاوضات مقبلة مع إسرائيل بجانب رفع الحصار وفتح المعابر وتحقيق التهدئة، وحل مشكلة الجندي الإسرائيلي شاليط والأسرى الفلسطينيين. وفي كل العناصر استمع إلى ما ستستطيع حماس أن تقدمه الآن، ومالا تستطيع القبول به، وقام بدور «حمامة السلام» بينها وبين إسرائيل في نطاق «الاستطلاع»وليس الوسيط التفاوضي.
وقد استجابت حماس للكثير مما طرحه كارتر تقديرا منها لمغامرة الرجل وتحمله لانتقادات لاذعة من جانب الإدارة الأميركية التي لم تخف غضبها من الجولة على أساس أنه التقى مع جماعة تصفها الإدارة بأنها منظمة إرهابية، ومع بشار الأسد الذي تعتبره خصما سياسيا لها في لبنان، ورغم كل ذلك أصر الرجل على القيام بجولته، وإمعانا في تحدي الإدارة سعى إلى إضفاء مشروعية عربية عليها من خلال زياراته للعواصم العربية الأربع، بما مثل لطمة سياسية للسياسة الأميركية الحالية. كما تفاعلت حماس إيجابيا مع أطروحات كارتر لكي تدافع عن مصداقيتها بأنها مستعدة لأن تكون مرنة في عملية السلام إذا ما وجدت ما يدفعها إلى هذه المرونة، ولكي تكسر الحصار السياسي الذي فرضته عليها واشنطن عالميا، استنادا إلى أهمية ما يمثله التواجب مع شخصية مثل كارتر الحائز على جائزة نوبل والذي رعى أهم اتفاقية سلام إسرائيلية - عربية حتى الآن، وأحد أعضاء مجلس الحكماء الذي شكلته الأممالمتحدة منذ سنوات فضلا عما يمثله من مكانة داخل حزبه الديمقراطي في الولاياتالمتحدة.. ومن جهة أخرى فإن فكر كارتر هو جزء من فكر الحزب الديمقراطي الأميركي الذي يؤمن بالتعددية واحترام الآخر والمساواة ولا يميل إلى استخدام القوة في السياسة الخارجية، وهو إذا كان ينحاز لليهود فإنه في الوقت نفسه لا ينكر حقوق الآخرين، وقد نجح كارتر من قبل في التقريب بين مصر وإسرائيل، كما سعى كلينتون إلى تحقيق الهدف نفسه بين الفلسطينيين وإسرائيل ولم ينجح، والقصد هو أن كارتر عندما جاء إلى المنطقة وأصر على لقاء قادة حماس برغم علمه بما يوصفون به داخل البيت الأبيض بأنهم إرهابيون كان يعبر عن طرح فكري مختلف من جانب الديمقراطيين في الولاياتالمتحدة ككل، لا يتفق مع ما يطرحه الجمهوريون في ظل إدارة بوش. وما كان له أن يأتي إلى المنطقة ويقوم بهذه المغامرة لو لم يكن قد حصل على دعم من الديمقراطيين في الكونغرس، بل ومن أوساط الرأي العام المؤازر للحزب الديمقراطي.
كانت الفرصة سانحة لحماس لكي تتعامل مع كارتر بشكل إيجابي بالنظر إلى ما تواجهه إدارة بوش داخليا من أزمات، وفشل مسار أنابوليس لعملية السلام من تلقاء نفسه وليس بسبب حماس، كما تدعي كل من أميركا وإسرائيل، وبالنظر إلى اشتداد وطأة الحصار على الفلسطينيين في غزة وعدم قدرة إسرائيل على تكسير عظام حماس كما كانت تتوقع حيث لا تتوقف المقاومة. وفي هذا الإطار فإن قادة حماس أعادوا التأكيد لكارتر على الموقف القديم بقبول نتائج مفاوضات عباس وإسرائيل إذا أقرها استفتاء فلسطيني. وقال خالد مشعل: «هناك وثيقة الوفاق الوطني التي اتفقنا عليها عام 2006 وفيها اتفقنا على أن أي نتيجة للتفاوض تعرض على إحدى آليتين إما على استفتاء حر ونزيه لكل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج، أو على مجلس وطني فلسطيني جديد ينتخب وفق آليات متفق عليها وطنيا»، كما قبلت حماس تهدئة مع إسرائيل من حيث المبدأ، قيل إن كارتر طلب أن تكون أسبوعا أو أسبوعين، وقيل مرة أخرى إنها أطول من ذلك مقابل إنهاء الحصار.
وشدد خالد مشعل على أن هدف حماس من أى تهدئة متبادلة مع الاحتلال هو حماية الشعب الفلسطيني لاسيما في غزة، ورفع الحصار عنه وفتح المعابر ووقف العدوان. وكان كارتر قد طلب أن تكون الهدنة من طرف واحد، وهو ما لم تقبله حماس، إلا أن نتائج جولة كارتر كشفت استعدادا إسرائيليا بقبول تهدئة متبادلة، وكذلك قبول حماس بأن تسري التهدئة المتبادلة على غزة فقط كمرحلة أولى، يتلوها شمول الضفة الغربية، حيث قالت إسرائيل بصعوبة التهدئة في القطاع بالنظر إلى حساسيته الأمنية الحالية لإسرائيل. وفي قضية المعابر سارت حماس خطوة إلى الأمام أفضل من السابق بقبولها وجود قوات حرس الرئاسة الفلسطينية وأفراد إداريين من السلطة الفلسطينية ومراقبين دوليين يبيتون في مصر وليس إسرائيل، وتخلت عن تواجد مسلح لحماس في المعابر أو محيطها بشرط عدم وجود كاميرات إسرائيلية.
ومن المعروف أن المعابر الإسرائيلية الفلسطينية هى 7 معابر أحدها هو معبر رفح. وفي قضية الجندي شاليط أمكن التوصل إلى اتفاق على إمكانية إطلاق سراحه مقابل إطلاق سراح 400 أسير فلسطيني كمرحلة أولى من 1000 أسير، وسمحت حماس لأن يحمل كارتر رسالة من الجندي شاليط إلى أسرته. ومن جهة أخرى أعادت حماس إلى أذهان كارتر ما كانت قد قبلت به من قبل وهو إقامة دولة فلسطينية في حدود 67 وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين دون الاعتراف بإسرائيل (لأن الاحتلال لا يمكن الاعتراف به).
من الناحية العملية لا يمكن تصور تفعيل ما تم الاتفاق عليه بين حماس وكارتر بين يوم وليلة أو بصورة كاملة ليس فقط لأن الرجل مهمته استطلاعية ولا يمثل طرفا وسيطا رسميا، ولكن لأنه مثلما هناك متطرفون على الجانب الإسرائيلي هناك أيضا مثلهم على جانب حماس، وكلا الطرفين سيعمل على إجهاض أي توجه نحو القبول بفلسفة المفاوضات طريقا لاستعادة الحقوق وإقامة سلام دائم، ومثلما لم تتخل إسرائيل بكل قواها السياسية عن فكرة الدولة الصهيونية فإن حماس لن تتخلى عن أن فلسطين وقف إسلامي يتعين استعادته ولذلك فإن التقريب في المواقف السياسية سيظل معرضا للكثير من العقبات.
ولكن من الناحية العملية أيضا يترسخ فكر جديد وتقاليد أخرى مغايرة للموقف الأميركي الذي عبرت عنه إدارة بوش وحكومة أولمرت في إسرائيل قوامه أن هناك تيارا سياسيا إقليميا وأميركيا ودوليا يدفع في اتجاه إدماج حماس في العملية السياسية التفاوضية، وأن الأخيرة تتجه للتعامل مع مبدأ المفاوضات بما فيها التفاوض مع إسرائيل بشكل أكثر جدية من السابق، وأن الحصار أصبح له حل هو التهدئة المتبادلة وليس تصدير أزمته إلى مصر أو تفجير الموقف كله في وجه إسرائيل، وأن المصالحة بين حماس وفتح ضرورية الآن وليس غدا لمصلحة كل من الطرفين، والأهم هو أنه إذا كان الجميع سيلتقون في نهاية المطاف على مائدة المفاوضات مثلما فعلت منظمة التحرير من قبل، فلماذا لا يلتقون اليوم بقدر أقل من الخسائر البشرية في الجانبين بدلا من أن يلتقوا في الغد البعيد وقد دفع كل منهما ثمنا غاليا في الأرواح؟!