لا يمكن حماية وحدة أي مجتمع إلا بالمحافظة علي تنوعه الثري والسعي إلي تعظيم إيجابيات هذا التنوع الديني والعرقي واللغوي والتراثي وفي مختلف المجالات. فالوحدة لا تتحقق ولا تنتج ثمارها إلا في إطار التنوع. وإذا صادرت سلطة أية دولة التنوع الذي يتميز به مجتمعها, فهي تعرض وحدته للخطر لأنها تحرمه من ثراء هذا التنوع ومزاياه وتضعف أحد أهم مصادر قوته.. وقوتها. والفرق كبير, علي هذا النحو, بين الوحدة التي تصادر تنوع المجتمع وتفرض من أعلي, وتلك التي تقوم علي هذا التنوع وتتحقق من خلال التفاعلات الحية في الواقع بين الفئات الاجتماعية المتعددة والمتنوعة. ولذلك نخطئ في حق دولتنا ومجتمعنا كثيرا إذا قبلنا مشروعا للدستور يقوم علي الوحدة والتنوع بل مصادرة هذا التنوع اعتقادا في أنها هذا السبيل لحماية وحدة المجتمع الثقافية والحضارية واللغوية: (تحمي الدولة الوحدة الثقافية والحضارية واللغوية). فلا يصح إغفال أن أي مجتمع يشمل مكونات متعددة ومتنوعة, وأن ضمان تعددها وتنوعها هو الذي يجعلها حريصة علي الوحدة بل مستعدة للذود عنها إذا تعرضت لأي خطر أو تهديد. فالمجتمع, أو الاجتماع الإنساني, يقوم في الأساس علي القبول والرضا والتفاعل الحر والرغبة في العيش المشترك, أو ما نسميه في مصر الوحدة الوطنية ولكن بمعني أوسع لا يقتصر علي المسلمين والمسيحيين بل يشمل من ينتمون إلي أصول مختلفة ومن يعيشون في المدن والأرياف والبوادي. وقد بلغ الحرص علي هذا المعني عند إعداد مشروع دستور 1923 مبلغا دفع إلي تمثيل أهل البادية في اللجنة التي وضعته (لجنة الثلاثين). ولذلك لا خوف علي وحدة أي مجتمع إذا شعر كل من مكوناته بأنه يشارك في إدارة شئونه وصنع مستقبله. ولكن الخوف كل الخوف علي هذه الوحدة يبدأ عند مصادرة التنوع أو إغفاله أو تجاهله سواء بشكل قصدي أو غير متعمد. فهذا هو الخوف الحقيقي, وليس الخوف الذي يبديه البعض من النص في الدستور علي أن تضمن الدولة التنوع الثقافي وتكفل سبل التعبير عنه لإثراء المجتمع بروافده المتعددة التي يسهم كل منها بدور في نهضته والارتقاء به. ولا يمكن أن يكون هذا النص دافعا للتخوف من أن يؤدي إلي تشجيع نزعات انفصالية لدي بعض مكونات المجتمع. فإذا كان مكون أو آخر من هذه المكونات أصر علي أن يظل جزءا من مجتمعه ودولته رغم تعرضه إلي إجراءات أدت إلي نقل بعض أبنائه من قراهم ومواطنهم تحقيقا لمصلحة عامة ودون تعويض أو التزام بالوعود الرسمية التي اقترنت بتلك الإجراءات مثل المصريين النوبيين, فالأكيد أنه سيزداد إصرارا علي الوحدة التي يشعر بحضوره فيها ويتمتع بحقوقه في ظلها ويتنفس هواء حرا من خلالها. وليس هذا افتراضا يتطلب أن نختبره أو أملا نتمني أن نحققه, بل هو واقع يشهد عليه تاريخنا المعاصر فضلا عن أنه علم يرتبط بتراكم المعرفة في علوم الاجتماع والتاريخ والسياسة كما في الفلسفة. ففي تاريخنا الحديث يقدم المصريون النوبيون وسكان البادية خصوصا في سيناء نماذج ملهمة في الوحدة التي لا خوف عليها في غياب قدر كاف من التنوع الذي تتعرض هذه الوحدة للخطر بمقدار ما يقل وجوده. وفي العلم والفلسفة, وعبر تراكم المعرفة الإنسانية خلال فترة طويلة, ثبت أن كل كيان في الوجود يتكون من أجزاء, وأن لكل جزء منها جوهره الخاص الذي يميزه, وأن هذه الأجزاء تتكامل بمقدار ما يتوفر لها من حرية وتتنافر في غياب هذه الحرية. كما تبين أن التفاعل الحر بين أجزاء الكيان, أي كيان في الوجود, يغنيه لأنه يجمع أفضل ما في هذه الأجزاء ويضيفها إلي بعضها البعض فيجعل الحصيلة أكثر ثراء. وعندئذ يصبح الكيان الذي تتكامل أجزاؤه من خلال التفاعل الحر بينها أقوي من غيره الذي لا يتوفر فيه مثل هذا التفاعل أو يظن القائمون عليه أن الاعتراف بالتنوع في داخله يهدد وحدته. وعندئذ يصبح هذا الظن هو المصدر الأول لتهديد وحدة الكيان (المجتمع في حالتنا) وليس الاعتراف بواقع التنوع الذي يعتبر سنة من سنن الله في خلقه. فقد خلق الله عز وجل الكون علي أساس التنوع والتعدد وليس علي قاعدة التفرد والأحادية, لكي يتعارف الناس المخلوقون علي هذا النحو علي اختلاف أديانهم وأصولهم وأعراقهم ولغاتهم وقبائلهم وتقاليدهم. ولو شاء الله تعالي لخلق الناس جميعا متشابهين. ولكن حكمته شاءت أن يخلقهم متنوعين متعددين مختلفين لكي يتعارفوا ويتفاعلوا ويقيموا وحدتهم في كل مجتمع علي أساس من القبول والرضا ويضعوا القواعد التي تحقق لهم ذلك وفقا لظروفهم التي تتباين حسب الأماكن والأزمنة. ولذلك لا يصح أن نأتي اليوم, ونحن في مستهل مرحلة نتطلع فيها إلي الحرية والمشاركة والحوار والتفاعل الإيجابي, أن نصدر دستورا يصادر التنوع الذي خلقه الله وجعله سنة من سنن الكون, وأن نلزم الدولة بحماية وحدة المجتمع دون أن يشمل هذا الالتزام المحافظة علي تنوعه. وليس هذان التزامين مختلفين, بل هما وجهان للالتزام نفسه لأن الدولة التي لا تحافظ علي تنوع المجتمع وتعدده لا تستطيع حماية وحدته بل تعرض هذه الوحدة للخطر وتفتح الباب أمام الفتن التي تنتج عن الشعور بالظلم والغبن والتمييز. ولذلك, فكما ينبغي أن ينص الدستور علي واجب الدولة في حماية الوحدة الثقافية والحضارية واللغوية لمجتمعنا, عليه أن يؤكد في الوقت نفسه التزامها بالمحافظة علي تنوعه وتوفير سبل التعبير عن هذا التنوع. وهذا هو ما يجعلها دولة لكل مواطنيها وإطارا جامعا لشعبها بكل مكوناته وحارسا للثقافة الوطنية بكل مكوناتها ولتراثنا الحضاري في مختلف المراحل التاريخية. وعندئذ فقط نكون قد التزمنا بسنة الله في خلقه, واحترمنا مبادئ الحرية والديمقراطية والتعددية التي ستظل موضع شك إذا نص الدستور علي حماية وحدة المجتمع وأغفل المحافظة علي تنوعه. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد