في بحث قيم للفقيه العظيم المغفور له الدكتور/ عبد الرزاق السنهوري بعنوان مخالفة التشريع للدستور والانحراف في استعمال السلطة التشريعية, حدد حالات عبر فيها عن فكرة الانحراف التشريعي حال مخالفته للدستور, ولم يدر بخلده أن الانحراف يمكن أن يحدث أثناء وضع النصوص الدستورية ذاتها, فالمستقرئ لمسودة الدستور المطروحة الآن في مصر يتضح له أن عددا من تلك النصوص يمكن اعتبارها انحرافا دستوريا, ولايمكن لمحترف في القانون أن يقر ما جاء بها أو يوافق عليها, خاصة في باب السلطة القضائية, ونظرة إلي تلك المسودة نجد أنها تضمنت: الانتقاص من اختصاصات أصيلة وفنية للنيابة العامة دون موافقة مجلس القضاء الأعلي, وبالمخالفة لنصوص قانون السلطة القضائية التي توجب موافقة المجلس علي مشروعات القوانين المتعلقة بالقضاء والنيابة حتي ولو كان المشروع هو الدستور ذاته طبقا للمادة الأولي من القانون142 لسنة2006, لأنه في النهاية قانون, ولأن القضاة أدري بما يحقق صالح القضاء الذي هو في النهاية صالح الوطن والمواطنين, والأدهي من ذلك أن مجلس القضاء قد أرسل خطابا للجمعية التأسيسية بعدم موافقته علي باب السلطة القضائية, وأعلنت كذلك الجمعية العمومية لنادي القضاة رفضها له, ومع ذلك وجدنا من يصرح بأن ذلك مجرد رأي لايلزم الجمعية التأسيسية, وهو ما يؤكد الانحراف الدستوري. في نصوص المواد32,33,35 اقتصرت إجراءات التحقيق المتعلقة بالقبض والحبس والتفتيش علي قاضي التحقيق فاستبعدت بذلك النيابة بكامل أعضائها من اتخاذ تلك الإجراءات في كافة الجرائم, بما يضيف أعباء جسيمة علي القضاء الجالس لاتساهم في حل مشكلة بطء التقاضي ولاتحقق العدالة الناجزة بل تعوقها, فسلب اختصاص أصيل للنيابة العامة ورد بالدساتير السابقة ومعمول به في مصر منذ أكثر من ستين عاما, واقتصر اختصاصها علي الادعاء فقط, ولم يخبرنا العبقري الذي تبني هذه الفكرة كيف يمكن للنيابة أن تسند اتهاما إلي متهم دون أن يكون لديها عقيدة يقينية بضلوعه في ارتكاب جريمة, إن لم تكن هذه العقيدة ناشئة عن أدلة توصلت إليها من خلال إجراءات تحقيق كافية؟!! ورغم إسناد سلطة التحقيق والادعاء للنيابة الادارية. جاء بالمادة178 أن مدة عمل النائب العام أربع سنوات تبدأ من تاريخ شغله لهذا المنصب عملا بالمادة227, أي أنه بموجب النص الأخير يمكن إقالة النائب العام بمجرد صدور الدستور وبعد الاستفتاء عليه, ويلاحظ أن ذلك النص لم يظهر إلابعد المحاولة الفاشلة لإقالة النائب العام وتصدي القضاة وأعضاء النيابة لها, بما لايمكن تفسيره إلا بأنه وسيلة للتخلص من شخص بعينه هو النائب العام الحالي ومجازاة أعضاء النيابة والقضاة علي وقفتهم الجريئة في وجه الظلم والتغول علي السلطة القضائية, أفلا يتحقق بذلك ما قال به السنهوري من أن إصدار تشريع بالانتقاص من اختصاصات هيئة قضائية بقصد التخلص من بعض أعضائها يعد انحرافا تشريعيا؟!! غير أن المفارقة في هذه الحالة هي أن الانحراف يقع في الدستور ذاته. إذا ما نظرنا للمادة179 الخاصة بالنيابة المدنية, سنجد أن الانحراف الدستوري فيها قد وقع فجا, فلقد فات علي واضع هذا النص أن النيابة المدنية موجودة بالفعل وممثلة في نيابة النقض ونيابة الأحوال الشخصية وهي جزء أصيل من النيابة العامة, ومقصود تلك المادة هو حل هيئة قضايا الدولة ودمجها في القضاء كنيابة مدنية, بدليل إغفال الحديث عنها في باب السلطة القضائية مع أنها هيئة قضائية مستقلة طبقا لقانونها والنص علي حلها ودمجها في القضاء في المادة232 من المسودة, وتصريح من قام بصياغة هذا النص بذلك وما ساقه من مبررات ليس لها سند من واقع أو قانون, بقوله إن هذا النظام معمول به في فرنسا ويسمي ميدياتور وكذلك في الدول الاسكندنافية تحت مسمي أومبادزمان مع أن ذلك ليس له سند فنظام الميدياتور موجود في فرنسا ويقصد به الوسطاء أو قضاة الصلح العرفي في المسائل المدنية والجنائية وليسوا من القانونيين المحترفين, ونظام الأومبادزمان المعمول به في السويد أخذت به مصر لتحديد وظائف المدعي العام الاشتراكي ثم ألغي تحت الضغط الشعبي في النظام السابق, مما يفصح عن أن هذه الأنظمة لاعلاقة لها بنظام النيابة المدنية, كما أضاف مبررا آخر متعللا بتحقيق المصلحة العامة مفاده أن هيئة قضايا الدولة تستنزف أموالا طائلة من ميزانية الدولة ولاتؤدي عملا, ويمكن إسناد عملها للشئون القانونية في الوزارات والمصالح, وفاته أن إلغاء هيئة قضائية لها تاريخ يربو علي المائة عام في هذا العمل هو إهدار لخبرات وكفاءات نادرة, بوصفها تنوب عن الدولة فيما يرفع منها أوعليها من قضايا وتتمتع بالاحتراف والتمرس الكافي في هذا المجال, وأن إسناد هذا العمل للشئون القانونية في كل وزارة وهي لاتتمتع بهذه الخبرة هو مما يدفع إلي اللجوء إلي مكاتب المحاماة الخاصة, ويكبد الدولة نفقات طائلة بلا أي مبرر, ظنا منه أن ذلك يحل مشكلة بطء التقاضي مع أن المشكلة وحلولها معروفة ومجال حلها هو القوانين المختلفة وليس الدستور الذي تمتلئ مسودته بالكثير من المثالب والعيوب. لقد حاولوا تقليص سلطة المحكمة الدستورية في الرقابة اللاحقة علي دستورية القوانين, مع أنها الوسيلة المثلي للقضاء علي أي انحراف تشريعي, ولم ينتبهوا إلي أن ثورة يناير أسقطت الدستور السابق بكامله لمجرد الانحراف في بعض التعديلات الدستورية الخاصة بتوريث نظام الحكم. إن المنطق الطبيعي للأمور ألا يتم التعجل في إصدار دستور مليء بمثل هذه العيوب قبل مناقشته بمعرفة المتخصصين الحقيقيين, بعد أن كشفت مسودته عن أن من صاغ نصوصه علي هذا النحو لايمكن اعتباره من المتخصصين. نائب رئيس محكمة النقض