لا توجد دولة في العالم حققت تقدمها ونهضتها في ظل استقطاب وتشرذم تياراتها السياسية, ففي مثل هذه الحالة التي تشهدها مصر لا يمكن لمناخ هكذا أن يشكل بيئة مواتية لانطلاق عملية النهضة والتحديث وبناء مصر الجديدة, التي نريدها وقامت من أجلها ثورة25 يناير. فمناخ الاستقطاب وتعدد الرؤي وتصادمها حول الكثير من القضايا الوطنية, التي يجب حسمها مثل الدستور وشكل مصر المستقبل, يفتت الجهود والطاقات ويوجهها لاتجاه معاكس لطريق التقدم, كما يشكل قيودا أمام توجيهها في الاتجاه الصحيح, كما أن التيارات السياسية لا تزال تدير اختلافاتها, والتي تحولت إلي خلافات وخصام, بمنطق المباراة الصفرية, فإما أن أكون فائزا وأحصل علي كل شيء ويكون الآخر خاسرا ولا يحصل علي أي شيء, وغابت ثقافة الحلول الوسط ومبدأ التسوية الذي يعرفه منطق السياسة في أن يحصل الجميع علي مكاسب وخسائر بدرجات مختلفة وفقا للأوزان النسبية ودرجة النفوذ والتأثير لكل تيار. ومن هنا فإن تكلفة الاستقطاب تعني استمرار غياب الرؤية المشتركة التي تمثل قاسما موحدا لكل التيارات والاتجاهات, وهو الشرط الضروري لانطلاق عملية التقدم, وتجعل المجتمع أسير الدوران في فلك القضايا الفرعية, وتجاهل القضايا الكبري والأولويات الملحة التي ينبغي توجيه الجهود والأنظار صوبها وهي كيف نعيد بناء مصر وبأي آلية وبمن هل الدولة فقط أم كل قوي المجتمع؟ خاصة مواجهة مشكلات العشوائيات والأمراض والبطالة والفقر والأمية وإعادة هيكلة الاقتصاد وتحديثه.. وغيرها من القضايا التي قامت الثورة من أجلها. ولذلك فإن قضية مثل كتابة الدستور والجدل الذي يدور حولها منذ شهور, قد أخذت بأكثر مما تحتمل, فرغم أن الدستور يمثل البناء الهندسي لإعادة صياغة المجتمع في جميع جوانبه, إلا أن تفاعلات تلك العملية قد انحرفت عن مسارها الصحيح في ظل تخندق كل طرف داخل حصنه وتصوراته غير المرنة, ويدير الأمر من منظور عقائدي وأيديولوجي وكأنه في معركة مصيرية, وليس من منطق وطني يقتضي التجاوز علي الشكليات والتحرك للأمام بحصر نقاط الخلاف, وهي لا تتجاوز عشر مواد, والعمل بروح مخلصة وصادقة في تجاوزها للوصول إلي توافق وطني بشأنها, خاصة أنه لا يوجد تباين جوهري بين مختلف الأطراف علي أن الهدف من الدستور هو تكريس الحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية ومنع الاستبداد, والأخير هو الأهم لأنه الضامن للحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية, فلم تكن مشكلات الدساتير السابقة في النصوص, حيث كانت كلها تؤكد الحرية والعدالة واستقلال القضاء والإعلام وغيرها, لكن الاستبداد السياسي قد فرغها من مضمونها وجعلها مجرد حبر علي ورق, كما أن الحديث حول أزمة الهوية والمادة الثانية يمثل افتعالا واضحا من مختلف الأطراف, فالدستور لا ينشأ الهوية وإنما هي حالة يعيشها المجتمع تشكلت عبر قرون وقبل إنشاء الدساتير. ولذلك تمثل حوارات الرئيس مرسي الحالية مع رموز العمل الوطني ومختلف القوي والتيارات السياسية لحسم الخلاف حول الدستور والقضايا الأخري, مبادرة إيجابية تتطلب شرطين لإنجاحها, وهما أن يكون هناك حوار حقيقي من أجل المصلحة الوطنية, وليس محاولة فريق فرض رؤيته والمبالغة فيها, وتعظيم المساحات المشتركة وتقليل مساحات الاختلاف, وأن تتخلي الأغلبية عن فرض هيمنتها وتتخلي الأقلية عن ديكتاتوريتها, وأن يترجم هذا الحوار إلي برنامج عمل واضح تتفق عليه جميع الأطراف لإنهاء حالة الاستقطاب الحالية والتشرذم. ولاشك أن العقبة الحقيقية الآن في مصر هي في أزمة النخبة, فبدلا من أن تكون قاطرة نهضتها وحشد طاقاتها وتعبئة مواردها, وتتباري في طرح الأفكار الخلاقة والحلول الإبداعية لمشكلاتنا المزمنة, أضحت مصدر نكبتها وتعثرها وتعميق جراحها, كما أن هناك فجوة بين النخبة والمجتمع, ودخلت في صراع فيما بينها ومعارك أيديولوجية وتصفية حساباتها التي خرجت إلي السطح بعد الثورة بعدما كبتها النظام البائد إبان حكمه, ويغذي هذا الصراع غياب إطار مرجعي وقواعد لعبة تحكم تفاعلات الجميع, حيث كل طرف يدير الصراع بمنطقه وقواعد لعبته, ولذلك تحول الاختلاف من عامل ثراء وتكامل وظاهرة صحية تشهدها كل مجتمعات الدنيا, إلي عامل صراع وتطاحن, والمحصلة النهائية خسارة الوطن والمواطن وتعثر البدء في مشروع بناء مصر الجديدة. إن الشرط الضروري في تحقيق النهضة أن يستشعر الجميع مسئوليته الوطنية والتاريخية ويتخلي عن منطق الإقصاء ورفض الآخر, وليدرك الجميع أنه في سفينة واحدة وأن الكل مواطنون في هذا المجتمع, سواء إسلاميين أو يساريين أو ليبراليين أو ناصريين وسواء مسلمين أو مسيحيين, وأن تكلفة استمرار تلك الحالة سيكون باهظا علي الجميع, والشرط الكافي هو الالتفاف حول هدف واحد ورؤية مشتركة لإعادة بناء مصر وتوظيف مواردها البشرية والمادية ومساهمة الجميع في عملية البناء, وبدون هذين الشرطين ستظل مصر أسيرة للمربع الأول ولحالة الاستقطاب والتشرذم التي لا تصنع نهضة وإنما خصم من تاريخ مصر وفرصتها في أن تكون دولة عصرية تتناسب مع إمكاناتها وتاريخها وثورتها. المزيد من مقالات احمد سيد احمد