كان الفرعون في مصر القديمة وهو يقسم أمام الكهنة بتسلم الحكم، يقسم على الحفاظ على نهر النيل وحمايته من التلوث. أما المواطن المصري في مصر القديمة فكان يعترف في وصيته أولا بعدم الشرك بالإله ثم عدم عصيان الوالدين وفي المرتبة الثالثة مباشرة عدم تلويث مياه النيل. لقد كان النيل مقدسا بدرجة كبيرة عند المصريين القدماء، حكاما ومحكومين، والحفاظ على مياهه له أولوية لدى الجميع. لم يعد الأمر بهذه الصورة اليوم، بل العكس هو الحادث إذ تتم استباحة هذا النهر العظيم بشتى أنواع المخالفات، منها ذلك التسرب الذي أدى إلى بقعة زيت تتفتت وتسبح من محافظة إلى أخرى. المرارة تكمن في أن الإهمال فيما يتعلق بنهر النيل يضعف موقف مصر في الدفاع عن حقوقها في حصة المياه السنوية. بهذا الخصوص وصلتني رسالة من أحد خبراء المياه الدوليين وهوالدكتور مغاوري دياب، الذي يحذر فيها من هذا الوضع الذي لا يفيد مصر على الإطلاق في مفاوضاتها. وهذا هو نص رسالته، عل القائمين على الأمر ينزلون من عليائهم ويتحاورون بالعلم فقط دون أي أيدلوجيات أو إنتماءات سياسية، يقول الدكتور دياب : " يتعرض نهر النيل للتلوث من مصادر متعددة مثل ما حدث مؤخرا وأدى إلى تسرب بقعة زيت من أحد المصانع قرب إدفو في صعيد مصر ومازالت إجراءات السيطرة على هذه البقعة قائمة حتى اليوم. وليست هذه البقعة أول مظاهر التلوث ولن تكون بالقطع آخرها، فتسرب الزيت من أحد المصانع على ضفاف نهر النيل ليس هو المصدر الوحيد للتلوث، فمن المعروف أن هناك تلوث دائم من الصرف الزراعي على امتداد محافظات الصعيد في جانبي نهر النيل، كما أنه لايوجد صرف صحي لأغلب قرى ومراكز الصعيد لذا يلجأ المواطنون إلى إلقاء مخلفاتهم إما في النيل مباشرة أو في بيارات أو قواسين (آبار عميقة للصرف) في خزانات المياه الجوفية ومنها إلى مياه نهر النيل لتحمل مياه النهر ملوثات بكتريولوجية أوعضوية أو معدنية وغيرها. كذلك فإن مياه الصرف الصناعي يتم صرفها في النيل بما تحمله من ملوثات ضارة وقاتلة. ولا ننسى بالطبع ما تصرفه العائمات السياحية من مخلفات. ناهيك عما أثبتته الدراسات الهيدرولوجية من أن نهر النيل يتغذى الآن في الجزء المصري على المياه الجوفية الموجودة على جنبات النيل التي هي في حقيقتها مياه صرف زراعي وصحي نتيجة إرتفاع منسوب المياه الجوفية في الخزانات الجوفية على امتداد الوادي عن منسوب مياه نهر النيل مما يتخلل التربة في أراضي الوادي من فائض الري بإستثناء مناطق القناطر التي يعلو فيها منسوب مياه النيل عن منسوب المياه الجوفية. وحيث إن تلوث مياه نهر النيل معلوم لدى دول المنابع فهي تعتبر تلوث وإهدار مياه النيل من الدفوع القوية التي تقدمها عند الحديث عن إعادة توزيع حصص مياه النهر في إتفاقية عنتيبي، فترفض هذه الدول الحديث عن الحقوق التاريخية لمصر والسودان في مياه نهر النيل والتي تبلغ 55.5 مليار متر مكعب سنويا بالنسبة لمصر. وعلى الرغم من أن دول المنابع لا علاقة لها بسوء استخدام المياه داخل مصر ومظاهر إهدارها من نظم ري عتيقة واستخدام المياه في غسل الشوارع أو غسل السيارات وغيرها، بالإضافة إلى مظاهر التلوث، فإن هذه الدول ترفض قبول تثبيت الإستخدامات الحالية لمصر. ومن هنا تمثل بقعة الزيت في إدفو، نقطة مهمة لدول المنابع تضعف موقف مصر التفاوضي في ملف مياه نهر النيل. ولذلك يجب أن تكون قضايا إهدار وتلوث مياه النيل هي الشغل الشاغل للحكومة المصرية بل للشعب المصري بأكمله. فقانونا البيئة والري، لم يكونا يوما مانعين لحدوث التلوث أو الإهدار. إننا يجب أن نتخذ من حادث تسرب بقعة الزيت وما أحدثته من إغلاق مؤقت لمحطات تنقية المياه ومن إرتباك في الهيئات والوزارات المسئولة، درسا نتعلم منه كيفية حماية مياه نهر النيل من التلوث. وبهذا الخصوص نقترح التالي : أن تكون مشروعات الصرف الصحي لقرى ومراكز الصعيد أولوية أولى خاصة المناطق القريبة من النيل، ورفع كفاءة الصرف الزراعي والعمل على تخفيض منسوب المياه الجوفية التي تصرف في مياه النهر، ووقف حفر القياسين فورا حفاظا على مخزون المياه الجوفية ووقايته من التلوث، ووضع رقابة شديدة على العائمات وإلزامها بتركيب محطات مدمجة للصرف، وإنذار المصانع بضرورة توفيق أوضاعها بيئيا وتنفيذ مشروعات بنية أساسية للصرف للمناطق الصناعية، والتنسيق بين الوزارات المعنية لعمل تحاليل دورية من مواقع رصد يتم تحديدها طبقا لاحتمالات مصادرالتلوث، واستحداث فرق الإرشاد المائي من متطوعين شباب لنشر ثقافة احترام نهر النيل بمساندة أجهزة الإعلام، ومشاركة الأحزاب والجمعيات الأهلية وروابط الشباب والجمعيات الشرعية في توعية المواطنين لأخطار التلوث وفي تشكيل أدوات ضغط على الحكومة لتنفيذ مشروعات حماية نهر النيل من التلوث وإهدار مياهه الغالية." إنتهت كلمات الخبير المائي ويبقى السؤال : متى يحترم المصريون نهر النيل ومتى يدركون أن دونه لن يشربوا ولن يزرعوا ولن يأكلوا ؟ اللهم افرغ علينا صبرا .. لعل من يتولون المناصب يدركون خطورة الأمر.. [email protected] المزيد من مقالات رشا حنفى