لم تأت مسودة الدستور التي طرحتها الجمعية التأسيسية للحوار المجتمعي في أكتوبر الماضي بهذا السوء الذي توقعه الكثيرون, كما أنها لا ترقي إلي المستوي الذي أمله آخرون, حيث حوت المسودة عددا من السلبيات, أبرزها: أولا: افتقاد النص الدستوري المقترح أي إشارة إلي ثورة يناير2011, اللهم إلا في المادة130 التي تنص علي عضوية مدي الحياة بمجلس الشيوخ لرؤساء الجمهورية السابقين الذين تولوا هذا المنصب بعد ثورة يناير, والمادة56 التي تنص علي تكفل الدولة برعاية أسر شهداء ومصابي الثورة والواجب الوطني وأولوياتهم وأبنائهم وزوجاتهم في فرص العمل. وحتي تأنيث لفظة( زوجاتهم) يوحي بافتراض مسبق قوامه ذكورة شهداء الثورة, علي نحو يخالف ما جرت عليه الصياغة القانونية من التذكير المطلق للضمائر بما يشمل الجنسين. والمفترض أن تكون ثورة يناير من الإلهام لدستور الجمهورية التي تنشئها بحيث يتجلي ذلك في إشارات عدة بوثيقة الدستور, لعل أهمها سياسيا تضمين باب الأحكام الانتقالية مادة تحظر العمل السياسي علي جميع أعضاء النظام السابق وفقا لتعريف محدد, دون حرمانهم حقهم في التصويت في الاستفتاءات والانتخابات العامة, وتقتضي وحدة الوثيقة الدستورية في هذه الحالة إدراج استثناء يشير إلي هذه المادة المقترحة في نص المادة49 الخاصة بحق كل مواطن في الانتخاب والترشح وإبداء الرأي في الاستفتاء. ثانيا: تقييد بعض الحقوق والحريات, ومثال ذلك: إحالة باب الحقوق والحريات والواجبات العامة بمسودة الدستور وتنظيم وتحديد عدد من الحريات إلي القانون والأحكام القضائية, وهو ما يكفي لتفريغ ذلك الباب من مضمونه وفقا لقوانين تسنها السلطة التشريعية أو أحكام تصدرها السلطة القضائية. كما نصت المادة67 علي حظر تشغيل الأطفال قبل تجاوزهم سن الإلزام التعليمي في أعمال لا تناسب أعمارهم, والأجدي إزالة عبارة في أعمال لا تناسب أعمارهم, بما يعني التجريم التام لعمالة الأطفال خلال سن التعليم الإلزامي, ويحد من ظاهرة التسرب الدراسي, ومن ثم يسهم في القضاء علي الأمية. كذلك حظر المادة71 عددا من الأفعال التي تدخل ضمن نطاق ما بات يعرف بالاتجار بالبشر, كالرق والعمل القسري, غير أن ذات المادة غفلت عن حظر أشكال أخري للاتجار بالبشر كزواج الصفقة وتجنيد الأطفال, الأمر الذي يمكن تداركه من خلال النص علي حظر الاتجار بالبشر بجميع أشكاله المنصوص عليها في التزامات مصر الدولية. ثالثا: غياب التوازن بين سلطات الدولة وضعف بنية النظام السياسي, من خلال عدة أوجه, هي: 1 مسئولية الحكومة دون رئيس الجمهورية أمام البرلمان, كما يتجلي من عدة مواد, أبرزها المواد من103 إلي106 والمواد من125 إلي128 والمادتان161 و.162 2 إجازة المادة97 قيام ثلث أعضاء أي من مجلسي النواب والشيوخ في أول اجتماع لدور الانعقاد السنوي العادي طلب انتخاب رئيس جديد للمجلس أو وكيليه أو أحدهما, وهو نص يحمل في طياته بذور زعزعة الاستقرار التشريعي, من خلال التبدل السريع في التحالفات البرلمانية للوصول إلي عضوية هيئة مكتب أي من غرفتي البرلمان. 3 لم تفرد مسودة الدستور ولو مادة للمجلس الأعلي للقضاء, ما يعني بداهة أيلولة شئون القضاء إلي السلطة التنفيذية ممثلة بوزير العدل أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمهورية, وهو ما يضرب استقلال القضاء في الصميم. 4 لم تأت المادة159 بجديد عندما نصت علي محاكمة رئيس الجمهورية أمام محكمة خاصة يرأسها رئيس المحكمة الدستورية العليا التي يصدر قرار بتعيين قضاتها من رئيس الجمهورية وفقا للمادة183, بما يوقع الحرج علي كاهل قضاتها في محاكمة الرئيس. ولعله من الأولي النص علي محاكمة رئيس الجمهورية أمام مجلس الشيوخ بعدما يصدر قرار اتهامه من مجلس النواب, باعتبار أن كليهما هيئة منتخبة لا معينة, وهو المعمول به بالفعل في النظام الأمريكي. 5 نصت المادة212 علي أن يتولي عملية الاقتراع والفرز في الاستفتاءات والانتخابات التي تديرها المفوضية الوطنية للانتخابات أعضاء تابعون لها, وهو ما يعد انتكاسة لمسيرة التحول الديمقراطي منذ ثورة يناير, ويقتضي تداركها استبدال ذلك بتولي أعضاء من السلطة القضائية عملية الاقتراع والفرز. 6 تعسفت المادة220 في شأن تعديل الدستور باشتراط ألا يتم قبل مضي خمس( أو عشر) سنوات علي تاريخ العمل به, وهو ما يتجاهل المشهد السياسي الذي تتم علي خلفيته صياغة الدستور في مناخ استقطابي لا توافقي, الأمر الذي سيجعل تعديل الدستور واردا خلال السنوات المقبلة وفقا لما يستجد من دروس في التجربة الديمقراطية, لا ينبغي الحجر عليها بنص مصمت, قد تكون عواقبه اضطرار السلطة التنفيذية في لحظة ما إلي تعطيل العمل بالدستور والشروع في كتابة دستور جديد, علي نحو يؤتي ثمارا عكس ما تهدف إليه المادة المشار إليها من استقرار دستوري, الأمر الذي يمكن تفاديه بحذف هذا النص من تلك المادة. بمعالجة أوجه القصور في مسودة الدستور, يمكن بناء توافق وطني من خلال حوار مجتمعي سليم يتمخض عن دستور يمثل رؤية للمستقبل لا تجسيدا للتوازنات السياسية الحالية, وهذا في حقيقة الأمر هو الفارق بين دساتير قابلة للحياة ودساتير تسقط سريعا.