شكل المشروع الفكري للباحث الكبير محمد السيد سعيد, واحدا من المشروعات الفكرية والبحثية الهامة التي تم التأسيس لها في نطاق جيل السبعينيات من القرن الماضي, ولا يزال يمتلك قدرا من الأهمية والحضور في السوق الفكري والسياسي والبحثي. وذلك لعديد الاعتبارات التي نسوق بعضها فيما يلي: 1-أن هذا المشروع من المشروعات المفتوحة وليست المكتملة والمغلقة التي يمكن قبولها كليا, أو رفضها كليا علي نحو ما رأينا لدي آخرين من ذوي التوجهات الإيديولوجية أو الدينية, حيث بدي الخلط لدي بعضهم بين الإيديولوجي والمعرفي والبحثي, وبين النظرية- بما هي قابلية للدحض والنقد وإثبات نقيضها وبين المبدأ العقيدي والقانون الديني الذي لا يقبل سوي التسليم والقبول بنصه ومنطوقه. 2-انفتاح المشروع, والرؤي النظرية والفلسفية, والسياسية التي ينطوي عليها, علي تقبل التطوير والجدل والأخذ والتطويع والحذف, ومن ثم نحن إزاء منجز فكري دينامي وقابل للحياة ولم يقتصر علي مقاربة حالة تاريخية بكل محمولاتها وسياقاتها, وإنما يمتلك بعض من الصلاحية والحركية والقابلية للاستلهام والتطوير في مراحل تاريخية أخري. 3-مجمل العمل الفكري لهذا المشروع اتسم بالتواشج بين الأبعاد السياسية والاجتماعية الداخلية والإقليمية والدولية/ المعولمة, ومن ثم نحن إزاء مشروع فكري في قلب الجدالات العولمية والإقليمية والمصرية, ولم يكن قصرا علي الجوانب الوطنية والتفكير المحلي فقط علي نحو ما نري في بعض مكونات الإنتاج البحثي في الحالة الفكرية والسياسية المصرية الراهنة. أن أهمية هذا المشروع والإطار العام الحامل له والتعريف به يحتاج إلي مراجعة أطره الرئيسة ومصادره علي اختلافها وذلك فيما يلي: أولا: الإطار المرجعي وتحولاته: أود أن أشير إلي أحد المفاتيح المركزية لفهم الأطر المرجعية والدلالية التي أنطلق من خلالها تفكير الباحث/ العلم محمد السيد سعيد, والتي يمكن من خلالها تفهم عمق المعرفة واتساع قاعدتها وتعددها في إطار العلوم الاجتماعية, والعلوم السياسية, وكذلك تنوع منابع ومصادر معرفته وغناها. نحن إزاء تكوين خاص وسم قلة من الباحثين والكتاب في جيل السبعينيات المصري, وفي إطار السلسلة الذهبية والممتدة لكبار المثقفين والباحثين والمفكرين في تطور الجماعات الثقافية المصرية منذ المرحلة الممتدة من محمد علي إلي إسماعيل باشا إلي مصر شبه الليبرالية, وحتي مصر التسلطية1952 وحتي الآن. ثمة خصومة ويبدو أنها كراهية لا تخطئها العين لمواقف العسكريتاريا الانقلابية في عالمنا العربي من المفكرين والباحثين والمثقفين, والبحث الاجتماعي, والجامعات الحرة. من هنا كان تمرد بعض مثقفي جيل السبعينيات ومعهم بعض من مجموعة1968 هي نقطة مضيئة في السلسلة الذهبية لمفكري مصر, لاسيما هؤلاء الذين استطاعوا أن يطوروا أفكارهم حول ثنائية الحرية والعدالة الاجتماعية, ليس من خلال الممارسة اللفظية أو الشعاراتية الجوفاء, وإنما من خلال المزاوجة بين المعرفة الفلسفية والسياسية والمعرفية التأصيلية, وبين الخبرة الواقعية المرة. هؤلاء قلة القلة, ومن هنا استثنائية ما قاموا به, وما قدموه من إنجاز وقيمة ارتبطت بعملهم ومسلكهم الحياتي. انطلاقا من الملاحظة السالفة, يمكننا رصد وتحليل ما يمكن أن نطلق عليه الإطار التكويني لمحمد السيد سعيد, وتحديدا المصادر القرائية والمعرفية التي أطلع عليها وسعي وتوصل إليها, وتمثلها وهضمها وأثرت علي نمط ممارسته البحثية والكتابية والذهنية وذلك فيما يلي: أول هذه الملاحظات التي تتبادر لذهن العارف والمتابع لمحمد السيد سعيد وعمله الفكري ومطاراحته علي اختلافها تتمثل في هذا المحصول القرائي الوفير في مجالات شتي- الأدب/ السينما/ الفلسفة/ التاريخ/ الاقتصاد, والعلوم السياسية- ومتابعة التطور في مجال الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية ومن الشيق ملاحظة اهتمامه الباكر بالحاسوب, وضرورة إدخاله في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. والسؤال الذي نطرحه هنا ما هي دلالة هذا التكوين المتعدد والقراءات الغزيرة في عديد المجالات؟ يمكنني الإجابة علي هذا السؤال فيما يلي: 1- دلالة التركيبة القرائية المتعددة: يمكننا استخلاص أهمية ودلالة التعدد في تكوين محمد السيد سعيد وقراءاته الواسعة والعميقة فيما يلي: أ-عدم الانحصار في التخصص الضيق وحدوده. ب-الرغبة في كسر الحدود الوظيفية والتفسيرية والتقنية ونمط المقاربات للظاهرة الاجتماعية وتعقدها. ج-الإطلالة الواسعة علي فروع العلوم الاجتماعية, كجزء من التداخل المنهجي بين معارف شتي لمقاربة الظواهر السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية. قراءات ممنهجة وبصيرة رمت إلي سبراغوار التطور التاريخي الذي جمع بين المادية التاريخية والمادية الجدلية مع توظيفهما في حدود أفضل الإمكانات الكامنة في كليهما, واستنطاقهما في جدية, وموضوعية تتجاوز التبسيطات السطحية للخطاب الإيديولوجي للفلسفة الماركسية. ربما كان سعي محمد سيد سعيد هدف إلي تحقيق المقولة الماركسية الذائعة ليس الهدف من الفلسفة هو تفسير العالم وإنما تغييره.. ربما كان مسعاه هو تفسير معمق وموضوعي ومركب للعالم/ مصر/ الإقليم مستخدما ترسانة منهاجية وآداتية, وإستراتيجيات متعددة للبحث والمقاربة, تصلح وتنقذ من تبسيطات الدرس المدرسي والحزبي الماركسي الفلسفي/ والتاريخي التي شاعت مصريا في عقد السبعينيات والذي اتسم بعضه بقدر لا بأس به من الخفة التحليلية وتعميماتها التي تحاول صياغة قوانين عامة للتطور التاريخي والاجتماعي والفلسفي في شكل مجموعة من المقولات المبسطة. كان مسعاه يرمي إلي نفاذ عند الأعماق لجوهر الدرس التاريخي/ الاجتماعي/ البنيوي/ الوظيفي النقدي في مقاربته للوقائع والظواهر التاريخية بكل مكوناتها وأبعادها وتداخلاتها علي اختلافها ثم الانتقال عبر الممارسة البحثية المنضبطة إلي مقاربة رامية إلي تغيير مصر/ تغيير العالم. قد تجد بعض من الترسيمات الأولية أو فلنقل المبسطة شأن أية بدايات وترسيمات أولية, ثم سرعان ما يشتد عود الممارسة البحثية وإستراتيجياتها في تحليل الظواهر المجتمعية في أبعادها كافة. 2-كانت مقاربته لرسالته/ الأطروحة لنيل درجة الماجستير حول الشركات المتعددة الجنسيات تعبيرا عن درس افتتاحي جاد وموضوعي كي يمارس محمد السيد سعيد الحركة الأولي في موسيقا مشروعه الفكري, وهو الإطلال علي العالم, وكائناته الجديدة العملاقة التي تصوغه وتديره وتشكل فاعل محوري في عملياته وصيروراته. كانت الشركات متعدية الجنسية ربما التغير البنيوي الأول في العلاقات الدولية والاقتصادية أيضا وتشير إلي أن عالمنا كله يتغير ونظامه الدولي يتحول من الحرب الباردة, وتوازنات الثنائية القطبية الحساسة إلي عولمة العالم, والإشارة الموحية والمؤثرة إلي الدور الذي ستلعبه بعض القوي الجديدة الفاعلة في أسواقه الاقتصادية والسياسية والمعلوماتية خارج أطره الرسمية الدول والمنظمات الدولية كفواعل في النظام إلي الكشف عن الفواعل غير الحكومية التي بدأت في كسر الحدود ومفهوم السيادة القومية ومتتالياته, والتأثير علي طبيعة الفواعل الرسمية وفاعليتها, ومن بدء التآكل في تركيبة وحدود وفاعلية الدولة القومية, في ظل ظاهرة الدور الإمبراطوري للشركات الإمبراطورية المتعدية للجنسيات. الأهم.. الأهم في هذه المقاربة هو تحررها من الإطار الأصم للماركسية التقليدية, أو خطاب الماركسية الرسمية الدوغمائي والإيديولوجي الشعبوي-, وتوظيفها للمنجزات النظرية المنهجية والأداتية للعلوم السياسية الغربية, ونظريات التحليل الاقتصادي/ السياسي الغربية, وعلي رأسها العلاقات الدولية, والعلاقات الاقتصادية الدولية.