محمد عيسي الشرقاوي : ذات ليلة عندما عم الظلام شوارع العاصمة. انطلق عمال أشداء لإزالة تمثال ضخم من فوق قاعدته. ونجحوا في مهمتهم السرية مع الساعات الأولي من صباح اليوم التالي. لكن المشكلة المثيرة للجدل والتأمل أن الجهات المعنية والحكومية تملصت من توفير ملاذ أخير يستقر فيه تمثال الطاغية الجنرال فرانكو الذي حكم اسبانيا نحو أربعين عاما. وهذا ما حدث في منتصف مارس.2005 وكان التمثال قد جرت إقامته عام1956 أمام مبني وزارة الأشغال العامة في العاصمة مدريد, غير أن الوزارة أنكرت أي صلة به. ولكنها اضطرت إلي وضعه في مخازنها إلي أن يطالب أحد بملكيته وهو ما لم يحدث حتي الآن. وكان الطاغية فرانكو عندما وهنت صحته, قد أعاد الأمير خوان كارلوس من المنفي إلي مدريد, ونصبه قبل موته عام1975, ملكا علي البلاد وتلك كانت نهاية الطاغية الذي أحكم قبضته علي اسبانيا بعد خوضه حربا أهلية ضد القوي الجمهورية الديمقراطية واليسارية لمدة ثلاث سنوات من1936 حتي1939 وسقط في معاركها الضارية نحو نصف مليون اسباني. وعندما عاد خوان كارلوس إلي مدريد, كان خالي الوفاض بادي الانقاض, أي لا يملك شيئا. ولذلك خصصت الحكومة له نحو عشرة ملايين دولار سنويا للانفاق منها علي أسرته, وقصره الملكي الجديد, وحظي الملك بتقدير الشعب. فقد وافق علي الأخذ بالنظام الديمقراطي. وتداول السلطة بين الأحزاب, واكتفي بأن يكون ملكا لا يحكم وظل وضعه مصونا لا يمس, حتي قام برحلة سفاري في بوتسوانا بإفريقيا لصيد الأفيال في إبريل الماضي.2012 }}} لا ضرر لا ضرار. مجرد رحلة سفاري لكن الأمر صار غير ذلك. فقد كانت سماء اسبانيا ملبدة, في ذلك الوقت, بغيوم الغضب والسخط من جراء الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالعاطلين والفقراء. وزاد الطين بلة أن رحلة السفاري باهظة التكلفة كانت فيما بدا سرية. وعندما دوي نبؤها بسبب إصابة الملك في أثناء مطاردة الأفيال.. اندلعت الثرثرة حول ثروة الملك. واستبد الغضب بأهل اسبانيا علي ممارسة الملك هذه الرفاهية, في وقت يتضرر فيه نحو خمسة وعشرين في المائة من العاطلين جوعا, والأدهي والأمر أن الحكومة تقذفهم بكرات لهب التقشف الاقتصادي الصارم لسد عجز الموازنة. وقد تمكن الملك من احتواء أزمته إلا قليلا عندما اعتذر للشعب, لكن غضب الجماهير لم يخفت, وحاصر ألوف المتظاهرين مبني البرلمان منذ أيام, احتجاجا علي إجراءات التقشف, وسخطا علي ما أطلقوا عليه اختطاف السياسيين للديمقراطية. وفي ذلك الوقت, أطلت بوجهها القبيح تقارير التعاسة في اسبانيا, وهي مدعمة بالصور والاحصائيات, وتشير إلي أن جانبا من أهل البلاد يقتاتون من صناديق القمامة, وتقول مؤسسة خيرية أوروبية أنها تقدم الطعام المجاني لما يزيد علي مليون اسباني من العاطلين والفقراء, وأن العدد في تزايد مثير للقلق. }}} وفي وسط تقارير التعاسة هذه, تظهر بوادر مخيفة لاحتمالات انشقاق سياسي خطير, فثمة أقاليم تطالب بالانفصال عن مدريد, وترفع شعارا مراوغا عن تحقيق المزيد من الحكم الذاتي, وفي مقدمتها كاتالونيا والأندلس. وتبدو الحكومة بين شقي رحي المظاهرات الجماهيرية الغاضبة من سياسات التقشف والاضطرابات السياسية والنزعات الانفصالية في الأقاليم وتتأرجح البلاد بشدة علي شفا المخاوف الجامحة. وقد أيقظت هذه المخاوف, وتلك الأوضاع البائسة الفارس الأسباني دون كيشوت من سباته العميق والطويل, وهو البطل النبيل المفرط في مثاليته الذي أبدعه بروائي سرفنتيس وظن الفارس أن في وسعه أن ينقذ أهل اسبانيا من العاطلين والفقراء من الأشرار. وامتطي جواده, واستل سيفه القديم من غمده. وما كاد أن يخرج من ساحة بيته شاهرا سيفه حتي داهمته وأفزعته مظاهرات صاخبة تندد بسياسات التقشف. واختلط عليه الأمر وظن المشاركين فيها مردة وشياطين, و,كان قد أدرك أنه لا قبل له بمواجهتهم عندما حارب طواحين الهواء. وارتد دون كيشوت عائدا إلي بيته, وأوصد عليه الأبواب أما سرفنتيس فقد حزن حزنا شديدا علي ما حاق بفارسه في هذا المشهد الأخير.