منذ أيام قليلة كشفت صحيفة يني شفقالتركية الموالية لحزب العدالة والتنمية الحاكم مضمون رد رئيس أركان الجيوش الأمريكية مارتن ديمبسي علي اقتراح تقدم به نظيره التركي الجنرال نجدت أوزيل في لقائهما الأخير في أنقرة يطالب فيه بتعاون استخباراتي أمريكي مع تركيا علي مدي الأربع والعشرين ساعة ضد حزب العمال الكردستاني التركي المعارض. لم يرفض رئيس الأركان الأمريكي هذا الطلب من قائد جيش واحدة من أهم الحلفاء العسكريين والسياسيين للولايات المتحدة والعضو المؤسس في حلف شمال الأطلسي( الناتو) ولكن الموافقة الأمريكية جاءت مشروطة بطلبين رفضهما علي الفور رئيس الأركان التركي لاعتبارهما مساسا بالسيادة الوطنية التركية وتدخلا غير مقبول في القرار الوطني التركي, ووصفتهما الصحيفة التركية ب الفخين; هذان المطلبان هما: أن تحارب تركيا حركة طالبان في أفغانستان, وأن تكون تركيا جزءا من عملية هدفها محاربة أي وجود لتنظيم القاعدة في سوريا, وتتضمن أيضا إقامة نظام حكم ما بعد الرئيس السوري بشار الأسد يتمثل فيه حزب البعث والمسيحيون. هذا المثال التركي يعد واحدا من آلاف الأمثلة التي تكشف كيف يتعامل الأمريكيون مع حلفائهم, ناهيك عن الأعداء, التي تؤكد أن ما يقدمه الأمريكيون لحلفائهم من مساعدات مالية أو عسكرية أو سياسية تكون دائما مساعدات مشروطة. هذه المساعدات وصفها أحد أكبر المعاهد الأمريكية ذات الصلة بتخطيط وصنع السياسة الخارجية الأمريكية وهو معهد هيرتاج المحافظ بأنها أداة للنهوض بالمصالح القومية الأمريكية لا برنامجا للمساعدات الاجتماعية. أي أن الولاياتالمتحدة ليست وزارة للشئون الاجتماعية تقدم المساعدات انطلاقا من دوافع إنسانية وأخلاقية أو التزاما بمبادئ وقيم سياسية, ولكنها قوة عالمية عظمي هدفها السيطرة والهيمنة علي كل العالم, وهي في سبيل تحقيق وفرض هذا الهدف لا تتورع ولا تتردد عن سحق أي منافس يكون في مقدوره تهديد أو التصدي لهذه النزعة الأمريكية في التسلط والهيمنة, لذلك لم يكن غريبا أن يجئ رد الرئيس الأمريكي باراك أوباما علي سؤال يتعلق بمراجعة المساعدات التي تقدمها الولاياتالمتحدة لكل من مصر وليبيا بعد التظاهرات الأخيرة أمام السفارة الأمريكية في القاهرة والاعتداء علي القنصلية الأمريكية في بنغازي وقتل السفير الأمريكي داخلها, علي النحو التالي: أن الولاياتالمتحدة لا تتمتع بخيار الانسحاب من العالم.. نحن الدولة التي لا غني عنها. الخطير في مسألة المساعدات الأمريكية ليس فقط أنها دائما تأتي مرتبطة بشروط تمس سيادة واستقلال الدول التي تحصل علي هذه المساعدات, ولكن لأنها أيضا تأتي في اللحظة الحرجة التي لا تستطيع فيها الدول أن تمتلك القدرة علي الرفض, والنتيجة هي كسر إرادة هذه الدول وتحويلها عنوة إلي دول تابعة, مما يعني أن المساعدات الأمريكية تحدث ضمن عملية شديدة التعقيد تلعب فيها المساعدات دور المخدر الذي يتلقاه الشخص الطبيعي علي جرعات متتالية إلي أن يصل إلي مرحلة الاعتياد علي تلقي المعونة, ثم تتوالي الجرعات فيتحول الاعتياد إلي اعتماد عندها يبدأ التلميح ثم التصريح بالشروط والمطالب, وإذا ما ظهر تململ أو رفض يكون التهديد بوقف المساعدات هو الرد لكسر الإرادة وإجبار الدول علي القبول بالشروط ثمنا لمعونات جري إدمان الاعتياد عليها. مصر لم تكن خارج هذه العملية الجهنمية (المعونات والشروط والتبعية) فقد استطاعت خلال عقدي الخمسينيات والستينيات أن تقاوم الشروط وترفض التبعية, لكنها تعرضت لعقوبات هائلة كان أبرزها سحب تمويل السد العالي عام 1956, وكان أخطرها عدوان يونيو. 1967 وعندما هرولت بإفراط نحو تلقي المعونات هي عقب حرب أكتوبر 1973 وقعت في فخ الشروط فكان الربط بين المساعدات وبين السلام مع إسرائيل, وتطورت العلاقة من صداقة في عهد الرئيس السادات إلي تحالف مكشوف في عهد مبارك, تحولت مصر بسببه إلي أداة جري توظيفها لخدمة المصالح الأمريكية علي حساب مصالحها وأمنها وسيادتها الوطنية. وعندما استطاعت بثورتها أن تسقط نظام مبارك كان الرهان الأمريكي والإسرائيلي أن النظام الجديد لن يستطيع أن يغير من سياسة مصر الخارجية وعلي الأخص من التزاماتها نحو إسرائيل ومعاهدة السلام لسبب أساسي هو أن الاقتصاد المصري المعتمد بشكل أساسي علي مصادر تمويل خارجية لا يسمح لصانع القرار بأن يغير من هذه الالتزامات. هذا الاعتقاد معناه أن مصر وصلت إلي مرحلة الإدمان للمعونات الخارجية, وليس في مقدورها أن ترفض الشروط, وأن تخرج من دائرة التبعية للولايات المتحدةالأمريكية. وللأسف وجد هذا الاعتقاد ما يؤكده من ممارسات مصرية في عهد حكومة الدكتور هشام قنديل منها استمرار التنسيق الأمني مع الدولة الصهيونية, والحرص علي تأكيد التزام مصر بمعاهدة السلام مع هذه الدولة, رغم المخاطر الهائلة التي ترتبت علي هذا الالتزام خاصة الملحق الأمني وتفريغ سيناء من القوات المسلحة المصرية بدليل ما حدث في رفح أخيرا وما يحدث الآن من مواجهات في سيناء بين الجيش المصري والجماعات الإرهابية, واستمرار الاعتماد علي المعونات الخارجية وعلي الأخص الأمريكية والتوسع في تقديم الضمانات للمستثمرين الأجانب لدرجة السماح لهم بالاستثمار في سيناء بالمشاركة مع المصريين دون إدراك خطورة مثل هذا الاستثمار علي الأمن الوطني في وقت تكاد تتحول فيه سيناء إلي منطقة متنازعة السيادة وباتت مهددة من جانب إسرائيل بتحويل ملفها إلي مجلس الأمن الدولي. تطورات جديدة مثيرة في منظور علاقة الولاياتالمتحدة ومصر أحسب أنها كافية لتحفيزنا علي البدء في صياغة منظور وطني للعلاقة مع الولاياتالمتحدة ينطلق من منظور استراتيجي لسياسة مصر الخارجية قادر علي تخليصها من كل قيود التبعية وفي مقدمتها الاعتماد المفرط علي المساعدات الخارجية والتأسيس لعلاقة متوازنة مع كل دول العالم تحقق لمصر عزتها وكرامتها وتحفظ لها سيادتها الوطنية. المزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس