كشفت مظاهرات المعارضة المناهضة لبوتين عن تراجع واضح في مواقف المؤيدين لشعاراتها ومنها ما كان يطالب برحيل الرئيس وإعادة الانتخابات الرئاسية والبرلمانية. ورغم انضمام الشيوعيين وآخرين إلي المتظاهرين لأول مرة منذ مليونيتهم الأولي في ديسمبر الماضي التي لم تجمع آنذاك اكثر من مائة ألف متظاهر, فلم يتجاوز عدد المشاركين في المظاهرات الأخيرة أكثر من عشرين ألفا علي أحسن تقدير في توقيت يواصل فيه الكرملين إحكام حلقات حصاره حول المعارضة من خلال ما يفرضه من قيود وتشريعات. فماذا يعني ذلك؟ لا أحد يقول بطبيعة الحال ان النظام صار يحظي بقبول وتأييد الغالبية الساحقة من أبناء روسيا. ولا أحد يقر بعد بان الكرملين نجح في حل كل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي ينوء تحت وطأتها الملايين ممن يعانون شظف العيش ومشكلات البطالة في الاقاليم والمقاطعات ولا سيما في منطقة القوقاز التي بلغت البطالة في بعض ارجائها نسبة50% من القوي العاملة. ومع ذلك فمن الواضح والمؤكد ان المعارضة تظل عاجزة عن حشد القوي القادرة علي التغيير, في نفس الوقت الذي لا تزال فيه تفتقد الكثير من مؤهلات الاستمرار بعيدا عن لغة الشعارات وضجيج الشارع. وكانت المظاهرات الاخيرة قد كشفت عن ان المعارضة فقدت الكثير من زخمها علي ضوء استمرار تأرجح مؤشر البوصلة بين توجهاتها الغربية من جانب, وبين الواقع الراهن في الداخل الذي يؤكد تجاوز الطموحات لحدود القدرات. واذا كانت المظاهرات الاخيرة شهدت انضمام بعض فصائل اليسار وفي مقدمتهم الشيوعيون والقوميون إلي جانب ممثلي اليمين الليبرالي بزعامة ممثلي حزب يابلوكو, فانها ورغما عن ذلك تظل عاجزة عن تشكيل الفريق الضارب القادر علي مواجهة الكرملين وحزبه الحاكم. وكان الحزب الحاكم أشهر البطاقة الحمراء لاحد أبرز زعماء المعارضة وهو جينادي جودكوف عضو كتلة حزب العدالة الروسية الذي صوتت غالبية مجلس الدوما علي سحب الحصانة منه تلبية لطلب النيابة العامة التي اتهمته بمخالفة القانون بجمعه بين عضوية البرلمان والعمل في ادارة شركاته الخاصة. وكانت المصادر كشفت عن ان عدد هذه الشركات يزيد علي الأربعين وتعمل في مجال الحراسة الخاصة والامن, في الوقت الذي ثمة من يقول فيه انها كانت ولاتزال علي علاقة مباشرة مع الكثير من رموز الجريمة المنظمة والمافيا منذ تسعينيات القرن الماضي استنادا الي ما كان يملكه جودكوف من خبرات واتصالات بحكم منصبه السابق كعقيد في جهاز امن الدولة كي جي بي وهو ما افقده الكثير من تعاطف الشارع. علي ان وضع جودكوف لم يكن وضعا استثنائيا, حيث ينطبق مثله علي الكثيرين من اعضاء مجلس الدوما ومنهم عدد من اعضاء الحزب الحاكم. وكانت الفترة القليلة الماضية شهدت اقرار مجلس الدوما لعدد من القوانين التي تقيد تحركات المعارضة وتحد من تمويل منظمات المجتمع المدني واعقبتها وزارة الخارجية في نهاية الاسبوع الماضي بقرارها حول اغلاق الوكالة الأمريكية للتنمية الدوليةUSAID في روسيا, وهو ما اعتبرهالجمهوريون في الولاياتالمتحدة إجراء عدوانيا واهانة لواشنطن, وطالبوا اوباما بسرعة الرد عليه, فيما ناشده ديفيد كرامر مدير منظمة فريدوم هاوس اتخاذ ما يلزم من أجل الضغط علي بوتين لارغامه علي التوقف عن ملاحقته لمنظمات المجتمع المدني, مؤكدا ان الاستسلام لمثل هذه التوجهات يعد خيانة وسابقة ليس لها مثيل من جانب الزعماء الغربيين. وكانت يلينا بانفيلوفا رئيسة فرع منظمة الشفافية الدولية في موسكو اعربت عن قلقها تجاه اتخاذ هذا القرار الذي قالت انه سوف يؤثر علي نشاطهم في مجال حقوق الانسان والدفاع عن المعتقلين. وقالت المصادر ان الولاياتالمتحدة كانت تنفق قرابة الخمسين مليون دولار سنويا لتمويل برامجها عبر هذه الوكالة لدعم الديموقراطية ومنظمات المجتمع المدني ومشروعات التنمية. غير ان هناك من يقول ايضا ان روسيا ليست الوحيدة التي قررت التصدي لتغلغل واشنطن داخل المجتمعات الأجنبية لخدمة مآرب ذاتية في اشارة إلي ما اتخذته مصر وباكستان وبيلاروس من قرارات للحد من تدخل الولاياتالمتحدة وفرض الرقابة علي تمويل منظمات المجتمع المدني. وفي الوقت الذي عزا فيه البعض اتخاذ مثل هذا القرار إلي رغبة الكرملين في الحد من مصادر تمويل الرقابة علي الانتخابات البرلمانية في14 اكتوبر المقبل, تشير شواهد كثيرة ان القرار ليس سوي حلقة جديدة من حلقات التشدد الذي سبق وكشف الكرملين عن تبنيه منذ مظاهرات ديسمبر الماضي في روسيا في اعقاب الانتخابات البرلمانية الماضية واعلان بوتين عن قرار خوضه الانتخابات الرئاسية لفترة ولاية ثالثة.