أشرت فى المقال السابق بعنوان: الضغوط الأمريكية على إيران.. تعصف بالإقليم، إلى العديد من السيناريوهات، انتهيت بترجيح سيناريو التراجع الأمريكي، كالمعتاد، باعتباره الأقل تكلفة لو أضحى ترامب عاقلاً فى هذه المرة. وقد صدقت توقعاتى بأن التهديدات بالحرب الأمريكية على إيران، والتحركات الفعلية للسفن والبوارج وحاملات الطائرات، كانت لإثبات جدية هذه التهديدات. إلا أن المتأمل فى القراءة الجدية لطبيعة النظام الإقليمى والدولي، وحقيقة موازين القوي، يدرك أن واقع هذا النظام الدولى قد تغير مقارنة بما حدث عام 1990م (وقت الغزو العراقى للكويت والحرب الأمريكية بغطاء دولى لتحرير الكويت)، وما بعد ذلك. ولذلك لم يعد القرار الأمريكى حُرًا، بل أصبح مقيدًا بسببين. الأول: هو تغير النظام الدولى من الأحادية حيث كانت أمريكا هى القوة الوحيدة والحاسمة وان قررت وأعلنت، نفذت على الفور، إلى التعددية المرنة حيث بزغت كل من روسيا والصين معًا، وأصبحتا منافستين أقوياء وأندادًا، فضلاً عن أن التوحد الأوروبى الأمريكى لم يعد قائمًا منذ العدوان الأمريكى المنفرد على العراق عام 2003م، وزاد الشقاق بين أمريكا وأوروبا بعد تولى ترامب فى يناير 2017م رئاسة أمريكا وأسلوبه وقراراته الأحادية تجاه أوروبا. وبالتالى أصبحنا أمام نظام دولى تغير فعلاً، ولم تعد أمريكا صاحبة القرار الانفرادى حربًا أو سلمًا، كما كانت من قبل خلال فترة العشرين عامًا (1990-2010م)، الأمر الذى جعلنا نشير كثيرًا إلى أن أمريكا فى طريق الأفول لمن يريد أن يفهم من صناع القرار فى عالمنا العربي، بل الشرق أوسطي. أما السبب الثاني: فهو توازن القوى الجديد فى الإقليم. حيث لم تعد إيران، دولة صغرى أو محدودة القوة، بل متنامية فى قوتها، ولديها قدرات عسكرية متميزة، قادرة على استيعاب ضربة أمريكية أو أية ضربة ثم الرد بقوة، وهو ما يحسب أن ذلك تقييدا لمن يفكر فى قرار الحرب إلا إذا كانت له مآرب أخري. كانت تصريحات إيران ثابتة، وقادرة على مجابهة أمريكا وترامب والتصريحات الهجومية، بل أعلنت إيران استعدادها للمجابهة وحذرت أمريكا من العدوان بأن كل الأطراف التى يسعى ترامب لطمأنتها ستكون فى مرمى الصواريخ الإيرانية، لتشتعل المنطقة على نحو غير مسبوق على عكس التقديرات التى يتم تسويقها بأن مصير إيران هو مصير العراق! كان الخطاب السياسى الإيرانى قويًا فى مجابهة أمريكا. فضلاً عن تصريحات روسيا والصين، بأنهما لن يسمحا بأى حرب ضد إيران، بل إنهما سيدعمان إيران وسيقفان معها فى كل الظروف. ولذلك فإن التراجع الأمريكى كان مرجحًا عندى بشكل كبير، استطاعت معه أمريكا أن تجنى ما يقرب من (10) مليارات دولار، مقابل عقود تسليح لدول الخليج، ومحاولة كسب ود إيران، والتراجع عن الشروط التى طرحتها وهى (12) شرطًا، فضلاً عن وساطة يابانية متوقعة بعد زيارة ترامب لليابان وتصريحات إيجابية ومخاطبة ود إيران بصورة مكشوفة! وقد تلقيت اتصالات عديدة تعقيبا على المقال السابق. وكان من أهم ما تلقيت، اتصال من الصديق أ.د.فؤاد العابد من فرجينيا بأمريكا، الذى حذر فيه من انسياق بعض الكتاب العرب وراء الميديا الأمريكية الصهيونية بالترويج لإيجاد عدو للأمة العربية وهى إيران بدلاً من إسرائيل، بينما لو أدرك العرب أن إيران هى عمق استراتيجى للأمة العربية لفتحوا قنوات الحوار معها بدلاً من العداء، وهذا من شأنه أن يصب فى مصلحة الطرفين. إلا أنه للأسف مازالت أمريكا تحركنا بالاتجاه الذى تريده من أجل حماية مصالحها ومصالح الكيان الصهيونى وأن تعارض هذا مع مصالحنا. وختامًا يمكن القول بأنه ليس من المصلحة العربية، حدوث حرب أمريكية صهيونية ضد إيران، بل إن الثمن الذى سيدفع هذه المرة أكثر فداحة مما حدث من قبل، والنتائج كارثية. وعلى صناع القرار مراجعة الأمر قبل الكارثة، واستثمار التراجع الأمريكى عن الحرب حاليًا. فإسرائيل هى العدو الاستراتيجي. لمزيد من مقالات ◀ د. جمال زهران