كتبت فى الاسبوع الماضى عن الاوضاع الدولية التى تؤثر على تحديد الدول لاختياراتها وأولوياتها وأتناول فى هذا المقال الاوضاع الاقليمية او الاطار الاقليمى والجغرافى الذى يؤثر ايضا عليها، بل يعتبره الكثيرون العامل الاكثر أهمية وتأثيرا بالنسبة للدول المتوسطة والصغيرة بحكم كثافة الاتصالات والتفاعلات التى تربط عادة بين الدول المتجاورة، خصوصا اذا جمعت بينها سمات ثقافية وحضارية متشابهة. فما هى اهم سمات الاطار الاقليمى المحيط بمصر الذى يتمثل فى منطقة الشرق الأوسط وفى القلب منها الوطن العربي؟ السمة الاولى هى حالة الانقسام والصراع التى تسود الدول والمجتمعات، حتى إن المنطقة أصبح يُشار اليها بأنها بؤرة الصراع فى العالم، ولا توجد منطقة اخرى تشهد هذا العدد من الصراعات والانقسامات العابرة لحدود الدول تماثل الشرق الأوسط. أدى انفجار تلك الانقسامات الى بروز ما يسمى بالحروب الجديدة او الحروب غير المتماثلة التى ارتبطت بوجود متزايد للميليشيات والتنظيمات المسلحة التى تتبنى فكرًا مُتطرفًا يبرر لها ممارسة اعمال العنف والارهاب. ارتبطت أيضًا بانتشار الحروب بالوكالة، واستدعاء المحاربين المرتزقة من دول اخري، والتدخل العسكرى الاجنبى المباشر. وكان أخطر ما أدت إليه تلك الانقسامات والصراعات هو حروب الهوية، اى الحروب التى تدور دفاعا عن عقيدة دينية او طائفة اثنية، أى عن الدين والمذهب والثقافة وتتمثل خطورتها فى انها تنشب بين أبناء الوطن الواحد وتقسم المجتمعات على نحو رأسى وعميق. وفى غمار هذا المناخ المحموم، ذاعت افكار متطرفة اتخذت من الدين رداء لها، واستغلت شبكات التواصل الاجتماعى لنشر دعوتها. ورغم الهزيمة العسكرية لأهم تلك التنظيمات وهو داعش فإن خَطره يبقى فى شكل الأفكار التى يروجها, و نشاط الجماعات المُسلحة التى بايعته فى أماكن شتى ، و الخلايا النائمة والذئاب المنفردة هنا وهناك. السمة الثانية هى انتشار نمط الدولة الفاشلة او التى فى طريقها الى الفشل، فالصراعات والتوترات التى تشهدها المنطقة لم تحدث بين عشية وضحاها، وانما تفجرت بسبب سياسات خاطئة وخرقاء اتبعها عددُ من الحكومات وفرضتها بالقوة. ويقصد بهذا النمط تلك الدول التى لا تستطيع الوفاء بالاحتياجات الاساسية لمواطنيها، ولا تقوى على حماية حدودها واقليمها، ولا تقدرعلى تطبيق القانون وحفظ النظام فى اراضيها، وتفشل فى تحقيق التكامل بين مكونات مُجتمعها. ومن مؤشراتها انتشار الفقر والبطالة وتدهور مستوى المعيشة لأغلبية الناس وعدم العدالة, وسوء الخدمات الصحية وانخفاض متوسط عمر الانسان، والاستبداد السياسى وغياب قنوات التواصل بين الحكم والمواطنين. وعندما تستفحل أزمات الدول الفاشلة تحدث المجاعات وتنتشر الأوبئة وتظهر مشكلات النازحين واللاجئين. السمة الثالثة هى سباق التسلح ، فنتيجة لحالة الانقسام والصراع وللتنافس بين الدول الإقليمية تشهد المنطقة سباقا قويا من أجل شراء السلاح، والتصنيع العسكرى المحلي، واجراء المناورات العسكرية فيما بينها ومع دول العالم الاخري. وحسب تقرير معهد ستوكهولم لبحوث السلام (سيبري) لعام 2018، فإن ثلث حجم تجارة السلاح الدولية يتجه نحو الشرق الاوسط، بنسبة 32% خلال الفترة 2013-2017. وفى تقرير المعهد لعام 2019, ورد أن 6 من قائمة أعلى 10 دول انفاقًا على السلاح وفقًا لمؤشر نسبة الانفاق العسكرى إلى اجمالى الناتج القومى من دول المنطقة وهى السعودية وسلطنة عمان والكويت ولبنان والأردن واسرائيل. السمة الرابعة هى عدم وجود تحالفات صلبة، وغياب نظام فعال للأمن الجماعي، فالتحالفات وأشكال التعاون والتنسيق بين الدول العربية تتسم بالمرونة والتغير، واختلاف وجهات النظر بشأن مصادر الخطر والتهديد. ويظهر ذلك على المستوى العربى ككل وعلى مستوى مناطقه الفرعية كمجلس التعاون الخليجى او دول المغرب العربي. كما يظهر فى عدم الاتفاق العربى على المقترح المصرى لإنشاء قوة عسكرية عربية مشتركة والاختلاف فى تقدير مصادر التهديد الاقليمية. وقد سمح هذا الوضع بالاختراقات من جانب الدول الاقليمية غير العربية، مثل العلاقة بين قطر وكل من ايرانوتركيا، والتحالف بين النظام السورى وايران. تمثل تركياوايران مصدرًا للتهديد فكلاهما يتبنى حُلمًا امبراطوريًا ساحته بلاد العرب. الأولى تتبنى أفكار العثمانية الجديدة وتُقيم علاقات مع التنظيمات المتطرفة والجماعات المُسلحة وتوجد قواتها فى سوريا والعراق وقطر. أما الثانية فإنها تحلم أيضًا بإحياء القومية الفارسية وتتدخل فى الشئون الداخلية للدول العربية من خلال الوكلاء والحلفاء. هذا اضافة الى التهديد الذى تمثله اسرائيل بسبب سياسات الاستيطان فى الأراضى الفلسطينية ونسفها عملية السلام من خلال ضم القدس والجولان واسقاط حل الدولتين ورفض تطبيق القرارات الدولية بشأن قضية فلسطين. أدى هذا الازدياد المطرد لدور الدول غير العربية فى المنطقة إلى تبلور علاقة قلقة ومضطربة بين النظام العربى والنظام الشرق أوسطي. وزاد الحديث عن موت النظام العربى واحلاله بنظام شرق أوسطى تكون الكلمة العُليا فيه للدول غير العربية. السمة الخامسة التغير فى مكانة الشرق الأوسط عالميًا وتحول موازين القوى فيه. فعلى مدى سنوات, برزت فى السياسة الأمريكية فكرة الانسحاب التدريجى من الشرق الأوسط وذلك لتنوع صراعاته التى تبدو وكأنها لا نهاية لها وارتفاع تكلفة التدخل فيها بشريًا وماديًا وانخفاض الاعتماد الأمريكى على النفط العربى فأمريكا هى أكبر منتجة للنفط اليوم. ورافق ذلك أطروحة الاتجاه إلى آسيا بحكم الصعود الاقتصادى المبهر للصين وازدياد طموحاتها العسكرية والأمنية مما يؤثر على مصالح أمريكا وحلفائها فى آسيا والباسيفيك ويمثل خطرا عليها من وجهة النظر الأمريكية. فى مواجهة ذلك تشهد المنطقة اندفاعة روسية تضمنت توطيد العلاقات مع كل دولها سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا, كما شهدت وجودا اقتصاديًا أكبر للصين وبدرجة أقل للهند واليابان. هذه التطورات تؤثر على أدوار اللاعبين الدوليين فى المنطقة وتؤدى إلى تغيير فى موازين القوى وأنماط التحالفات والتفاهمات السائدة. مصر تعيش فى إقليم غير آمن يزخر بمصادر الخطر والتهديد المادى والمعنوي. إقليم يتسم بالانقسام والتناحر والسيولة واحيانا بالفوضى والفراغ السياسي. فكيف تحدد مصر اولوياتها الوطنية فى هذا الاطار؟ لمزيد من مقالات د. على الدين هلال