هل سأل المصريون انفسهم يوما ان التخطيط الاستراتيجى بمفهومه العلمى كان حتميا لإحراز وتحقيق هذا النصر وعلى هذا العدو المتفوق؟ ولما حدث النصر فكيف تم ذلك؟ أجاب اللواء الدكتور محمد الغبارى مدير كلية الدفاع الوطنى الاسبق والخبير الاستراتيجى عن هذه التساؤلات، مبينا أن نجاح الإستراتيجية المقترحة لتحقيق مبدأ ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة بمعنى ان التخطيط الاستراتيجى للعمليات المنتظرة يتوقف - قبل كل شئ - على التقدير السليم للغاية او الهدف المنشود، والوسيلة (الامكانيات واسلوب العمل) وتحقيق التناسق بينهما، وبشرط ان يكون الغاية او الهدف متناسبا تماماً مع الإمكانيات المتاحة، موضحا ان الإستراتيجية الشاملة للدولة تستطيع أن تضاعف الإمكانيات المادية ومع القدرة البشرية كوسائل من أجل دعم إمكانيات الدولة، للحصول على التفوق الإستراتيجى والوصول إلى نتيجة حاسمة دون القيام بمعارك ضارية وباقل خسائر ممكنة. وقال اللواء الغبارى -للأهرام- انه عند الاجابة على هذين السؤالين نجد أننا لابد أن نتجه الى الاسلوب العملى الحديث فى العلوم الاستراتيجية التى توضح بالدراسة والبحث شكل المستقبل والطريق الآمن له ومدى القدرة على تحقيق الهدف المنشود من المشكلة المطروحة والتى تحددت هنا بحتمية النصر فى معركة تحرير ارض سيناء وبعد هزيمة كبيرة، ظلم فيها الجيش المصرى حيث استخدم دون تجهيز المسرح السياسى لعملياته العسكرية المنتظرة قبل عام 1967م لذا نجد القيادة السياسية ومعها القيادة العسكرية متمثلة فى مجلس الدفاع الوطنى اتجهت الى تناول الدراسة للمشكلة، من خلال بحث تأثير الهزيمة على الامن القومى المصرى واسلوب مجابهته واعداد الدولة للحرب كمحورين اساسيين. تأثير الهزيمة على الأمن القومي واضاف اللواء الغبارى ان تأثير الهزيمة على الامن القومى المصرى فى المجال السياسى تمثلت اولا فى إصرار إسرائيل على رفض الانسحاب من الأراضى العربية المحتلة، مما تسبب فى استمرار حالة الحرب، وفرض الاعتقاد بأن القوة العسكرية هى الحاسمة لتحقيق الأهداف، حيث بدأت إسرائيل فى توسيع استيطانها فى الأراضى المحتلة، ودعم وتطوير قدراتها العسكرية، متخذة من نظرية الأمن الإسرائيلى شعاراً لتحقيق أهدافها التوسعية، ووسيلة لخداع الرأى العام العالمى. وثانيا نتيجة لإنتصار إسرائيل، نجحت هى والولاياتالمتحدة فى تحقيق أهدافهما الإستراتيجية، وهى حصار مصر داخل حدودها وضمان التفوق العسكرى لإسرائيل، وإن إسرائيل هى أداة التنفيذ والحفاظ على المصالح الغربية وإطلاق يد الولاياتالمتحدة فى الشرق الأوسط وتحجيم حركة عدم الانحياز. واضاف الغبارى انه يأتى الامر الثالث ايضا فى تأثر المجتمع الدولى من حرب يونيو67 حيث أغلقت قناة السويس وتأثر حركة التجارة العالمية وآثارها السلبية على الإقتصاد العالمى، خاصة فى مجال النفط لزيادة طول خطوط المواصلات وتعرضها للمخاطر وزيادة تكلفة الشحن مما دفع العالم الى إجراء محاولات كثيرة لتحقيق السلام بين الأطراف المتصارعة، واشار الى ان التأثير بالنسبة للمجال العسكرى تمثل فى انتصار ساحق لإسرائيل على جميع الجبهات واحتلال اكبر مساحة من الاراضى العربية وتدمير معظم الاسلحة والمعدات للجيش المصرى بسيناء وتدمير المطارات المصرية وما يقرب من 70%من سلاح الجو المصرى والتواجد العسكرى الاسرائيلى على الضفة الشرقية للقناة والتهديد المباشر لمدن القناة والمنشآت البترولية المصرية فى السويس وانخفاض الروح المعنوية لافراد الجيش المصرى والشعب كذلك. أسلوب مجابهة الهزيمة وقال الغبارى ان النشاط السياسى العربى بدأ بإزالة الخلافات العربية بعقد مؤتمر الخرطوم والذى جاءت قراراته داعمة لمصر (عودة قواتها من اليمن- الدعم المالى لغلق قناة السويس )على كلا المستويين العربى والدولى، بالاضافة الى صدور القرار رقم 242 عن مجلس الأمن والذى اكد عدم الاعتراف بضم اراضى الغير بالقوة، وكان لهما تأثير مباشر فى تطور العمل الوطنى والقومى فى المراحل التالية من الصراع. وأضاف أنه لم ترفض مصر جهود الحل السلمى، بل سمحت للاتحاد السوفيتى بالقيام بكل ما يراه مناسباً فى هذا المضمار، وإجراء اتصالاته مع جميع الأطراف بشرط عدم التفاوض مع إسرائيل إلا بعد الإنسحاب من الأراضى التى إحتلتها مع عدم التنازل عن أى جزء منها وإعتمدت مصر على ذاتها والدعم العربى ووضعت إستراتيجيتها لتنفيذ ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة فانتهجت حرب الاستنزاف منهجا وطريقا لإعادة بناء القوات المسلحة تنظيما وتدريبا ومعنويا وبناء الدفاعات غرب القناة مع إستمرار القتال لمنع العدو من استكمال تحصيناته الدفاعية شرق القناة. وتابع ان مصر إستخدمت الدبلوماسية (المجال السياسى) لإثبات أنها تسعى إلى الانسحاب الإسرائيلى وتحقيق أهداف الشعب الفلسطينى وإقناع العالم بصفة عامة والاتحاد السوفيتى بصفة خاصة، أننا لا نريد الحرب من أجل الحرب مع المحافظة على صلابة الجبهة الداخلية والتضامن العربى وذلك لتهيئة المسرح السياسى الدولى والإقليمى لإسترداد الحقوق المشروعة. ولفت الغبارى الى ان حرب الاستنزاف استمرت واشتدت على الجبهة المصرية مما دفع الأممالمتحدة الى ارسال مبعوثها الخاص جونار يارنج للمنطقة والذى بذل جهودا كبيرة لتقريب وجهات النظر إلا أنه فشل بسبب التعنت الإسرائيلى ولو فى وقف النيران وقدم عبدالناصر وقتها مبادرة ورفضت أيضا وقدمت الولاياتالمتحدة مقترحاتها للحل وبعثت وزير خارجيتها روجرز وظل يعمل بين فشل ونجاح حتى إستطاع الوصول الى وقف إطلاق النيران أغسطس عام 70 ثم تجمد الموقف على ذلك فى حالة اللاسلم واللاحرب بسبب الوفاق بين الإتحاد السوفيتى والولاياتالمتحدة وتراجعت قضية الشرق الاوسط للاولوية الثالثة من الاهتمام الدولى ما دفع إسرائيل للاستمرار فى التعنت ورفض السلام. وقال الغبارى انه فى المجال العسكرى تم تطوير اسلوب اتخاذ القرارات الاستراتيجية لمعالجة أخطاء رئيسية فى مؤسسات اتخاذ القرار الاستراتيجى المصرى، وذلك بإنشاء مؤسسات تشريعية لشئون الدفاع عن الدولة وتنظيم اسلوب القيادة والسيطرة على القوات المسلحة والجمع بين الاستراتيجية السياسية والاستراتيجية العسكرية فى مؤسسة واحدة وهى مجلس الدفاع الوطنى وكذا انشاء المجلس الاعلى للقوات المسلحة واصدار القوانين المحددة لاختصاصات كل منها لتأكيد ان قرار الحرب اصبح مؤسسيا وليس فرديا. حيث خططت القيادة المصرية منذ العودة الى منطقة القناة واحتلال الضفة الغربية تحت ساتر المانع المائى لقناة السويس، وقررت أنه يجب ألا يهنأ العدو بما حققه ويجب وضعه تحت ضغط الحرب يوميا وذلك بما عرف بعد ذلك بحرب الاستنزاف بمراحلها الثلاث، وأن يتم الاعداد سواء للقوات أو مسرح العمليات الجديد تحت ساتر هذه الحرب، وإتضح ذلك من خلال تنفيذ أكبر عملية إعادة تجميع قوات مهزومة وتنظيمها فى ميدان المعركة وتحت ضغط العدو حيث تم إحتلال وحدات وتشكيلات موجودة للقطاعات والمناطق الدفاعية لها على المحاور الرئيسية والمهمة غرب القناة، بالاضافة الى تشكيل وحدات وتشكيلات جديدة وإعادة التسليح للجميع فى ميدان المعركة اى فى منطقة القناة بالاضافة الى تجهيز مسرح العمليات من خنادق افراد ومرابض مدفعية ودبابات ودشم اسلحة خفيفة ومتوسطة وتحصينات الرادارات والصواريخ والمطارات واراضى الهبوط بداية بالجهود الذاتية والامكانيات المحلية وبالافراد المقاتلين انفسهم، حتى وصول الدعم بالمواد والتجهيزات الهندسية من القيادة العامة بعد توفرها من الدولة، وتلا ذلك وصول معدات المهندسين العسكريين اللازمة للتنفيذ لاستكمال اعداد المسرح هندسيا. واضاف الغبارى ان مصر انتهجت اسلوب حرب الاستنزاف منهجا اساسيا بمراحلها الثلاث (مرحلة الصمود- مرحلة الردع (الدفاع النشط)- مرحلة الاستنزاف)، وذلك لاستعادة تنظيم وكفاءة القوات وتنظيم الدفاع غرب القناة والتجهيز الهندسى له والتدريب على المهام الجديدة استعدادا للحرب القادمة. التدريب فى المجالين السياسى والعسكرى واشار الغبارى الى انه تم ضغط العام التدريبى، وهو عام ميلادى الى ستة اشهر مع تنفيذ الالتزامات التدريبية المخططة للعام الكامل اى مضاعفة التدريب وكان التدريب على كل ما هو ضرورى للحرب أى الموضوعات والدروس التى ستنفذ فى الحرب مثل اسلوب فتح الثغرات على السواتر الترابية اسلوب فتح الثغرات فى السواتر الترابية والموانع الهندسية لإقامة ممرات العبور وإقتحام مانع مائى وكان إسلوب مهاجمة النقط الحصينة -اسلوب صد وتدمير الاحتياطيات المدرعة والميكانيكية المحلية والتكتيكية، ثم تجهيز مناطق تدريب مشابهة لقطاعات الهجوم للوحدات طبقا لمهمتها بدءا من قطاع العبور والساتر الترابى والموانع الهندسية والنقاط الحصينة وطرق ومحاور الاقتراب للاحتياطيات المحلية والتكتيكية والطرق الادارية باستمرار وجدية نهارا وليلا، مع فرض المواقف المتنوعة الطارئة والتى يمكن ان تؤثر على تنفيذ المهمة والتدريب على حلها ومجابهتها بالاضافة الى التدرج فى الترتيب من اعمال الفرد الى اعمال الجماعة بكل مستوياتها وتشكيلاتها القتالية. الى جانب استكمال منظومة الدفاع الجوى عن سماء مصر بدءا من قناة السويس ثم استكمال واعادة تنظيم القوات الجوية (قواعد ومطارات- طائرات تدريب طيارين والاطقم الفنية). وقال الغبارى لقد ظهرت الحرب المحدودة كمفهوم استراتيجى عسكرى، لخدمة الأهداف القومية المحدودة وطبقا للإمكانيات المتاحة والتقييم الدقيق للقدرات العسكرية للعدو والدعم العسكرى الخارجى له، وظهر وضوح الأهداف القومية والقرار السياسى للحرب، وانعكاس ذلك بشكل ايجابى على تحديد الهدف السياسى والعسكرى، وبالتالى الاستراتيجية العسكرية المصرية لإدارة الصراع وتحقيق أهدافه السياسية العسكرية. واضاف أنه إذا نظرنا الى الهدف من إعداد الدولة للحرب وما الذى ينبغى أن يؤمنه لوجدنا أنه يجب أن يحقق أولا أمن وسلامة الدولة وقدرتها على صد أى عدوان يوجه إليها فى أى وقت، مع قدرة على توجيه الضربات الرادعة للعدو، وتهيئة الظروف لتحقيق مصالح الدولة العليا وحماية اراضيها وتأمين حدودها لتحقيق الامن القومى لها، كما أن إعداد الدولة للحرب بصفة عامة يجب أن يتضمن إعداد الدولة وتهيئتها سياسيا واقتصاديا وشعبيا ومعنويا، وفى المقام الأول عسكريا لمواجهة أى نوع من أنواع الصراع المسلح والقدرة على إدارة حرب طويلة الأمد عند الضرورة والمحافظة على الروح المعنوية عاليةً للشعب وقواته المسلحة وعلى روح التصميم على النصر واتخاذ الإجراءات التى تضمن العمل السليم فى مجالات الإنتاج والخدمات فى جميع مرافق الدولة خلال فترة الحرب مع تكثيف الجهود لتأمين الدعم وتأمين المجهود الحربى. الاستراتيجية العسكرية للحرب واشار الغبارى الى ان الاستراتيجية العسكرية وضعت وخططت على أن تكون استراتيجية هجومية تستهدف هزيمة التجمع الرئيسى للقوات الإسرائيلية فى سيناء وطبقا للإمكانيات والموارد المتاحة للقوات المسلحة وفى تنسيق تام مع سوريا وتم تحديد الاهداف الاستراتيجية لخطة الحرب كالاتى: أبرزها العمل على هزيمة التجمع الرئيسى لقوات العدو فى سيناء وهضبة الجولان السورية والاستيلاء على خطوط ومناطق حيوية ذات أهمية استراتيجية (المضايق الجبلية) تهيئ أنسب الظروف لاستكمال تحرير الأراضى المحتلة وتلا ذلك وضع خطة الخداع الاستراتيجى والعمل بها على ان تبنى على شل قدرة القيادة الاسرائيلية على اتخاذ قرار التعبئة العامة قبل بدء الهجوم لمدة من 6-12 ساعة على الاقل حتى تتمكن القوات من عبور القناة واقتحام خط بارليف قبل اكتمال احتلال القوات الاسرائيلية لمواقعها الدفاعية شرق القناة، بالاضافة إلى إخفاء نية الهجوم، استمر تنفيذ خطة الخداع سنويا، بتنفيذ تحركات عسكرية كثيرة، تحت ستار المشروع السنوى الاستراتيجى على مستوى الدولة، مع التغيير المستمر فى حجم القوات وإنهاء خدمة، 20 ألف فرد، قبل العمليات 48 ساعة وتحريك معدات العبور، من الخلف للجبهة، تحت ستار الليل. خطة الهجوم ولفت الغبارى الى ان الاهداف الاستراتيجية للخطة الهجومية تمثلت فى تدمير الجزء الأكبر من القوات الإسرائيلية وإضعاف قدرات العدو الجوية، وشل فاعليتها، فى مسرح العمليات وشل وإرباك قيادة العدو، لفترة زمنية مناسبة لتحقيق النجاح فى العبور والتغلب على خط بارليف. وعرقلة التحركات، وحرمان العدو من القدرة على المناورة، والعمل ضد جبهة عربية واحدة، وإجباره على العمل ضد أكثر من جبهة، فى وقت واحد. وقال الغبارى ان المفاجأة الكبرى تحققت بالهجوم المصرى -السورى فى وقت واحد، على الجبهتين، حيث أعلنت الحرب وكانت الهزيمة الكبرى للجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر كما يدعون وتحقيق تحرير أراض من الأراضى المحتلة فى سيناء والجولان، مع تمكن إسرائيل بالدعم الأمريكى غير المحدود من عمل ثغرة على الجبهة المصرية واستعادة الجولان من سوريا,وكان حجم الخسائر الضخمة فى القوات الإسرائيلية أحدث إنزعاجا مهولا للولايات المتحدة التى قامت بالإمداد المباشر لإسرائيل وعلى جبهات القتال بالمعدات والأسلحة وتعويضها عن خسائرها بل بأكثر مما تحلم وسارع كيسنجر بالحضور الى القاهرة ودمشق وتل أبيب حتى يمكن إحتواء الموقف وإنقاذ إسرائيل من الهزيمة الكاملة، وظهرت أهمية أعمال التنسيق مع سوريا بشكل خاص والدول العربية بشكل عام للدعم السياسى والعسكرى والاقتصادى، وبما يحقق التوازن المطلوب مع إسرائيل فكان الدور الإيجابى العسكرى لسوريا وحرب البترول الاقتصادية من دول الخليج العربى.