من الطبيعى أن يختلف الناس حول الاولويات التى ينبغى أن تتبناها الدولة وأن تتنوع توجهات الأحزاب والمفكرين بشأنها, وأن يدافع كُل فريق عما يعتقد من اولويات. لكن الامر المُهم الذى ينبغى أن نُفكر فيه هو كيف نُحدد هذه الأولويات, وما الأسباب التى تُعطى أسبقية لموضوع ما عن غيره. وأعتقد أن العامل المُهم فى تحديد أولويات الدول هو الواقع الذى تعيش فيه وما يفرضه عليها من تهديدات ومخاطر أو ما يُتيحه لها من فُرص ومكاسب. ولَما كانت الدول لا تعيش فى أبراج عاجية وبمعزل عما يدور حولها فإن السياق العالمى هو أول ما يجب أن ننظر إليه كونه الاطار الذى تُمارس فيه الدول العُظمى والكُبرى سياساتها وطموحاتها, والذى تسعى فيه الدول المُتوسطة والصُغرى لحماية أمنها ومصالحها. فما أهم سمات السياق العالمى الذى نعيش فيه؟ السمة الأولى هى أننا نعيش فى عالم يموج بالتغيرات السريعة والمتلاحقة والتى تؤثر على الحياة اليومية لملايين البشر. ويكفى أن يتأمل المرء فى حجم التقدم الذى حدث فى التليفون المحمول منذ ظهوره فى الأسواق فى النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى أو يُماثل ذلك فى أجهزة التلفاز واستفادة كل منهما من التقدم المُثير فى مجال المعلومات والاتصالات. يتسم هذا التغيير بسُرعته وبشموله كل جوانب حياة الانسان والمُجتمع وبأنه ثمرة الثورة العلمية-التكنولوجية الهائلة أو الثورة الصناعية الرابعة. السمة الثانية هى تعاظم دور المعرفة كأحد عناصر العالم الجديد فنتيجًة للتقدم فى مجال البيانات الكبيرة والتدفق اللامتناهى للمعلومات, فقد أصبحت المعرفة موردا اقتصاديا وقوة انتاجية وصار الهدف الذى تسعى إليه الدول هو اقامة اقتصاد المعرفة. أدت أيضًا إلى تغيير بيئة النظم السياسية والاجتماعية. وليس من قبيل المبالغة القول إن الانترنت حقق ثورة سياسية فسقَط احتكار الدول ومؤسساتها للمعلومات وزادت معرفة الشباب بدقائق وتفصيلات ما يهمهم من موضوعات. وأصبحت شبكات التواصل الاجتماعى مصدرًا للأخبار والمعلومات. وقاد هذا إلى تحول فى رؤية الشباب لأنفسهم وآمالهم وطموحاتهم والتأثير على العلاقة التى تربطهم بالدولة ومؤسساتها وعلى إدراكهم الهوية وفهمهم لمعنى المواطنة وما تُثيره لديهم من مشاعر وأحاسيس وحقوق وواجبات. والسمة الثالثة هى تراجع إن لم يكن سقوط كثير من النظريات والأفكار الاجتماعية التقليدية فى قدرتها على فهم العالم الذى نعيشه والإمساك بتلابيبه، ناهيك عن استشراف مُستقبله. فالنظريات الكُبرى كالليبرالية والديمقراطية النيابية والاشتراكية والماركسية هى ثمرة القرن التاسع عشر ونشأت فى واقع اجتماعى واقتصادى مخالف تمامًا لعالم اليوم. وازداد الشعور بعجزها عن تفسير بعض ما يشهده العالم كأزمة النظم الديمقراطية الغربية وازدياد تأثير الاتجاهات الشعبوية والانعزالية والعنصرية وتصاعد دور الزعماء على دور المؤسسات. وسقطت المفاهيم التقليدية عن اليمين واليسار والمحافظة والراديكالية ولم تعد التعريفات عن الثورة والطبقة والسلطة والأحزاب قادرة على فهم عالمنا المعاصر. وظهرت مفاهيم جديدة كالطريق الثالث والتنمية المستديمة والاقتصاد الاحتوائي، كما تدور مناقشات حول الرأسمالية الجديدة والاشتراكية الجديدة والشمول الاجتماعى والدولة الاجتماعية والدولة التنموية. أدى هذا إلى إعادة التفكير فى قواعد التنظيم الاجتماعى والاقتصادى وتأثير التحولات التكنولوجية الكبرى عليها. ولم تعد هناك اجابات جاهزة او سهلة يمكن استدعاؤها لمواجهة المشكلات والتحديات. والسمة الرابعة أن هناك سباقًا عالميًا ومنافسًة ضاريًة لا تتوقف بين كل دول العالم خصوصا الدول الكبرى او الدول الحريصة على أن يكون لها موقع على خريطة العالم الجديد. فعلى مستوى الدول الكبري, فإن المعامل ومختبرات البحوث فى مجالات الذكاء الاصطناعى والحروب السيبرانية والجاسوسية السيبرانية, هى الساحة الحقيقية للتنافس الذى تخصص له الدول ميزانيات ضخمة وتشارك فيها أجهزة مخابراتها وشركاتها الكبري. وعلى مستوى الدول النامية, فإنها تتسابق فى الاسراع بمعدلات نموها الاقتصادى وزيادة حجم الناتج القومى فيها وجذب الاستثمارات الخارجية وحسن الاستفادة من الموارد المتاحة لها. وعلى سبيل المثال ففى افريقيا كانت أعلى 5 اقتصادات وفقًا لمُعدل النمو الاقتصادى فى عام 2018 هى اثيوبيا بنسبة 8.5% وساحل العاج بنسبة 7.4%وروندا بنسبة 7.2% والسنغال بنسبة 7% وجيبوتى بنسبة 6.7%. وهُناك التجارب التنموية الاكثر نُضجًا كالصين والهند وكوريا الجنوبية وفيتنام واندونيسيا وماليزيا التى تمثل خبرات متميزة فى مجال التنمية التى أمكن تحقيقها فى فترة زمنية محدودة. فالصين مثلًا حققت طفرتها التنموية فى أربعين عامًا وذلك من خلال دور فاعل للدولة فى النشاط الاقتصادى وفقا لرؤية شاملة وعمل القطاع الخاص فى إطار هذه الرؤية. وتقول لنا هذه الخبرات إن التقدم ليس نزهة وانما يتحقق بالعمل الشاق والمثابرة. السمة الخامسة التراوح بين العولمة وسياسات الحماية، فالعولمة لم تحقق التنمية ورفع مستوى المعيشة والعدالة كما تنبأ دُعاتهًا بل أدت إلى ازدياد الفجوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة وإلى اتساع الشُقة بين الأغنياء والفقراء فى داخل كل دولة. وارتبط بذلك عولمة المخاطر والتهديدات العابرة للحدود كنشاط التنظيمات المتطرفة والارهابية والجريمة المنظمة والاتجار بالبشر. وأدى ما تقدم إلى مراجعات عديدة لحدود العولمة وما يمكن ان تفى به للدول النامية. والصورة التى ترسمها تلك السمات هى أننا نعيش فى عالم يشهد سباقًا وتنافسًا محمومًا بين الدول فى مجال التنمية الاقتصادية من ناحية والتقدم فى مجال «الرقمنة» وصناعة المعرفة والمعلومات من ناحية أُخرى وأنه لم تعد هناك حلول جاهزة أو نماذج ناجحة يمكن استيرادها وتطبيقها وأن على كُل دولة أن تُطور طريقها الخاص بها. الدول النامية أمامها مساران: مسار الركون إلى حالة التخلف والفقر والاكتفاء بالتغيير بشكل تدريجى وبطيء، مما يؤدى إلى استمرار تخلفها وتبعيتها واتساع الفجوة بينها وبين الآخرين, ومسار إحداث نقلة تنموية سريعة وشاملة يكون من شأنها تغيير هيكلها الاقتصادى والانتاجى وبنيتها التحتية ونظامها التعليمى والمعرفى بشكل نوعي. هذا عن السياق العالمي، اما السياق الاقليمى فهو موضوع المقال المقبل ان شاء الله. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال