بغض النظر عما سوف تكون قد آلت إليه الأحداث عند نشر هذه السطور بشأن تقدم الجيش الوطنى الليبى لبسط نفوذه على العاصمة طرابلس، وتخليصها من سطوة الفصائل والميليشيات العسكرية ذات الطابع القبائلى والجهوى والإرهابي، والتى يُعتبر بعضها امتدادًا لتنظيمى القاعدة وداعش, وسعى الولاياتالمتحدة والدول الغربية لوقف هذا التقدم. ظهر هذا السعى فى الاقتراح الذى تقدم به المندوب الامريكى لمجلس الأمن لإصدار قرار يدعو فيه الجيش لوقف القتال، واعتراض روسيا عليه وإصرار مندوبها على أن تكون الدعوة موجهة إلى كُل الأطراف وليس للجيش وحسب، مما أدى إلى فشل هذا السعي. فى هذه الأجواء, لا بد أن نتأمل فى الأسباب التى تدعو الدول الغربية إلى الحفاظ على الوضع القائم فى ليبيا وهو وضع الانقسام السياسى والفوضى المسلحة وشيوع الفساد المؤسسى ونهب ثروات ليبيا بشكل منظم، وسرقة مواردها تحت سمع تلك الدول وبصرها, فهى مستفيدة من استمرار هذه الأوضاع وحريصة على بقائها. وضمانًا للموضوعية, فإننى لم أجد أفضل من الاعتماد على الشهادات أو الإحاطات التى تقدم بها دكتور غسان سلامة -وهو صديق قديم قام بتدريس العلوم السياسية فى بيروت وباريس لسنوات طويلة- إلى مجلس الأمن باعتباره الممثل الخاص للأمين العام بالأمم المتحدة فى شأن ليبيا. وتُقدم هذه الشهادات صورة مُروعة وبائسة للأوضاع فى ليبيا. ففى تقريره بتاريخ 18 يناير 2019, قدم عرضًا للأوضاع فى عدد من المدن الليبية، فبالنسبة للمنطقة الجنوبية ذكر أنه بعد سنوات من الوعود بإيجاد حل للوضع فيها، إلا أن الظروف آخذة بالتدهور على نحو مفزع. فقبل بضعة أيام، أتيحت لى الفرصة لزيارة عاصمة المنطقة الجنوبية سبها، والتى كانت الزيارة الأولى من نوعها لممثل خاص للأمين العام منذ 2012. واستمعت مباشرة هناك للمواطنين الذين أخبرونى بشكل مؤثر عن المصاعب الفظيعة التى يقاسونها من وحشية تنظيم داعش إلى خوضهم فى برك من المياه الآسنة التى تجمعت نتيجة لغياب الاستثمار فى البنية التحتية العامة الأساسية. فضلاً عن غياب الأمن بسبب الحدود السهلة الاختراق ووجود المرتزقة الأجانب والمجرمين الذين يهاجمون المواطنين والمهاجرين على حد سواء. بينما أعرب العديد منهم عن تخوفهم من مغبة مغادرة أى من أفراد أسرهم لمنازلهم بعد مغيب الشمس. ودعا السلطات الليبية إلى تحمل مسئولياتها تجاه هذه المنطقة لأن مغبة هذا التقاعس وخيمة. وأضاف يعانى جميع الليبيين من تردى الخدمات العامة. ولا يزال المحتجزون فى السجون، والمهاجرون والصحفيون وأعضاء هيئة القضاء وغيرهم يتعرضون للإساءة وأعمال العنف على أيدى المجموعات المسلحة بينما يعانى الآلاف ظروفاً إنسانية مقلقة. وبالنسبة لمدينة درنة ذكر أنه بسبب استمرار القتال بين الميليشيات اضطرت أسر بكاملها للتهجير والسرقة وتم منع وصول المُساعدات الإنسانية، عن أهالى المدينة القديمة وتم اعتقال المدنيين بمن فيهم النساءً والأطفال وفى مراكز الاحتجاز، دون توجيه تهم إليهم. وبشأن العاصمة طرابلس التى تديرها حكومة فايز السراج المُعترف بها دوليًا فقد أشار إلى تكرر الانتهاكات التى تقوم بها الفصائل المسلحة والتى كان آخرها الهجوم الذى شنه تنظيم داعش فى 25 ديسمبر «2018» على وزارة الشئون الخارجية فى طرابلس... إذ إن المجموعات المسلحة تسيطر على معظم سبل إنفاذ القانون، عوضاً عن ضباط أمنيين محترفين. وأشار إلى أنه يعمل على إحالة السجون الواقعة تحت قبضة المجموعات المسلحة إلى وزارة العدل. وخلُص المبعوث الاممى إلى أن الازمة السياسية فى ليبيا تعززها شبكة معقدة من المصالح الضيقة وإطار قانونى مختل ونهب لثروات البلاد الكبيرة. لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يشير فيها دكتور غسان سلامة إلى مأساة الشعب الليبي, ففى تقريره إلى مجلس الأمن فى 21 مايو 2018, أشار إلى الهجوم الذى نفذه تنظيم داعش على الهيئة الوطنية العليا للانتخابات فى 2 من الشهر ذاته. وتناول تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية فأشار إلى الفارق الحاد بين سعر الصرف الرسمى «للدينار الليبي» والسوق السوداء ولا تزال تجارة البشر والتبادل التجارى غير المشروع للسلع يتدفق عبر الحدود... «كما» تنهب خزائن الدولة وتقاوم أى أعمال قد تتحدى اقتصادها القائم على النهب. وعبر المبعوث الأممى عن هذه المعانى فى تصريحاته الصحفية، والتى كان من أحدثها ما ورد فى 27 مارس من هذا العام من أن هناك مليونيرًا جديدًا كل يوم فى ليبيا وأن الطبقة الوسطى تتقلص يومًا بعد آخر. مشيرًا إلى أولئك الذين يستولون على المال العام ثُم يوظفونه فى الخارج، مؤكدًا أن الفئة الحاكمة فى ليبيا لديها مستوى عال من الفساد. وأعتقد أن السطور السابقة الصادرة عن مبعوث أممى يختار ألفاظه بدقة ودبلوماسية تكشف عن مدى تدهور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية فى ليبيا وفداحة الثمن البشرى لهذا التدهور. فمن هو المستفيد من استمرار هذه الأوضاع؟ المستفيد الأول هو الطبقة الحاكمة من سياسيين وقادة ميليشيات مسلحة التى تقوم بعملية نهب منظمة لخيرات البلاد. والمستفيد الثانى مجموعة الدول الغربية التى تمتلك شركاتها استثمارات هائلة فى مجال إنتاج النفط ونقله، والتى تتطلع إلى اقتسام كعكة إعادة الإعمار. والمستفيد الثالث بعض الاطراف الاقليمية -كتركيا وقطر- التى توظف حالة الانقسام السياسى لإيجاد مرتكزات لنفوذها فى ليبيا والبلاد المُجاورة لها. والمستفيد الرابع هو تنظيمات الارهاب العابرة للحدود والتى تلقت ضربات موجعة فى العراق وسوريا وتسعى الى إيجاد ملاذ آمن لأعضائها الفارين ومجال أوسع لأعمالها الاجرامية. المستفيدون يسعون الى استمرار حالة غياب الدولة والفوضى ولا يهمهم من قريب او بعيد مصلحة الشعب الليبي. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال