على مدى سنوات طويلة، اجتذبت الصين اهتمام السياسيين والباحثين من كل ارجاء العالم. ففى عام 1979، بدأت سياسة التحديثات الاربعة التى تطورت لتخلق تجربة تنموية فريدة نقلت الصين من دولة نامية الى دولة كبرى يشغل اقتصادها المرتبة الثانية عالميا بعد امريكا. جاء صعود الصين شاملا جميع مجالات النشاط الاقتصادى وأدى الى تغيير توزيع مصادر القوة فى العالم، وانتقالها تدريجيا من الغرب الى الشرق. وبحكم العلاقة الوثيقة بين الاقتصاد والسياسة فقد ادى التقدم الاقتصادى الى نمو تطلعات الصين السياسية والاستراتيجية والى بلورة تصورها لبيئتها الاقليمية والعالمية التى تمثلت فى اعلان الرئيس الصينى فى 2013 عن مبادرة الحزام والطريق و هى خطة طموح لتطوير البنية التحتية التى تسهل الاتصال مع دول العالم من اجل زيادة التجارة و الاستثمار. اهتمت الجامعات ومراكز البحوث المصرية بالمبادرة، وآثارها على المنطقة العربية والشرق الاوسط وموقع مصر فيها. وكان من احدث مظاهر هذا الاهتمام الندوة التى عقدتها الجامعة البريطانية بالقاهرة يوم 17 مارس الماضى، والتى شارك فيها ممثلون عن الوزارات والمؤسسات الحكومية ذات الصلة بالموضوع وعدد من الباحثين المصريين وثلاثة من الاكاديميين الصينيين الذين حضروا الى مصر بدعوة من الجامعة للمشاركة فى الندوة، ودارت مناقشات غنية وثرية، اثارت الكثير من الاسئلة والاجتهادات كان محورها من الجانب الصينى شرح مزايا المبادرة وفوائدها، ومن الجانب المصرى تقدير مدى انخراط مصر فى المبادرة وتعظيم الاستفادة منها. واشار الباحثون الصينيون إلى ان المبادرة تعبر عن رؤية بلادهم للعالم والعولمة، وانها مبادرة عابرة للقارات تركز على آسيا واوروبا وافريقيا وتمتد عوائدها لتشمل كل العالم، فهى تنطلق من الصين للعالم. وانها ترتكز الى عدة اسس ابرزها التنمية السلمية, والبناء المشترك, والفوز المشترك، وتقوم على احترام النظم السياسية لكل بلد وعدم التدخل فى شئونه الداخلية، واحترام التنوع الثقافى والحضاري. ومع ان المظهر الرئيسى للمبادرة اقتصادى وتجارى حيث انها تركز على بناء وتطوير البنية التحتية اللازمة للتنمية وتيسير التبادل التجارى من شبكات طرق وسكة حديد وموانئ ومناطق حرة وانابيب نفط وغاز وخطوط نقل الانترنت عبر القارات والمحيطات، فإن لها تداعياتها السياسية والاستراتيجية، فهى تقدم نموذجا تنمويا مختلفا عن العولمة الرأسمالية المتوحشة التى ادت الى ازدياد الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وبين الاثرياء والفقراء فى داخل كل دولة. لذلك يؤكد الصينيون ان المبادرة تسعى لتحقيق الخير ليس فقط للصين وانما لكل الدول المنخرطة فيها. كان هناك اتفاق بين المشاركين المصريين على ان المبادرة صدرت عن دولة صديقة قوية وموثوق بها، وان هناك علاقات وثيقة تربطها بنا، فمصر أول دولة عربية وافريقية اعترفت بجمهورية الصين الشعبية فى 1956، وصولا الى إبرام اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين فى 2014 فى أول زيارة للرئيس السيسى للصين التى أعقبتها أربع زيارات أُخرى بمعدل زيارة سنويًا. وانه خلافا لقواعد التعامل مع هيئات التمويل الغربية التى ترتبط عادة بمشروطيات اقتصادية وسياسية، فإن المبادرة تقوم على التكافؤ بين الاطراف، وانها تسعى لتحقيق التوزيع العادل لعوائدها, وانها ليست موجهة ضد دولة او تجمع، وتحظى بتأييد عالمى واسع تمثل فى اصدار الجمعية العامة للأمم المتحدة اكثر من قرار لدعمها. وهناك التقدير الصينى للحضارة الفرعونية فى مصر القديمة، واعتبارها احد الروافد الكبرى لتاريخ العالم. افصحت مناقشات الندوة عن انه قد آن الاوان لتجاوز الحديث عن معنى المبادرة وبرامجها ومزاياها الى مناقشة ماذا تحقق من المبادرة واين نحن منها, وكيفية تعامل دول اقليمية اخرى معها؟، وعلى سبيل المثال : فقد تم مد خط سكة حديد من الصين عبر كازاخستان وتركمانستان الى ايران، وترتب على ذلك اختصار المدة اللازمة لنقل السلع من شنغهاى الى بندر عباس من 45 الى 14 يوما. وفى اسرائيل، تقوم شركات صينية بتطوير ميناء اشدود الجديد والمقرر الانتهاء منه فى 2021، وابرمت شركة اخرى اتفاقا لإدارة ميناء حيفا لمدة 25 سنة. وفى باكستان، تقوم الصين بتطوير ميناء جوادر بعد ان استأجرته لمدة 43 سنة. والتعاون السعودى مع الصين فى إطار المبادرة والذى كانت أولى مشروعاته فى مدينة «جازان» فى جنوب غربى المملكة التى تصل استثماراتها 3 بلايين دولار بنهاية هذا العام. ثُم زيارة ولى العهد السعودى للصين فى فبراير الماضى التى اعطت زخما لهذا التعاون. ودولة الامارات التى تعتبر المنفذ لنحو 60% من الصادرات الصينية لمنطقة الشرق الأوسط. نحتاج اذن الى معرفة موقع مصر على خريطة او شبكة تفاعلات المبادرة وتحديد دقيق للأولويات المصرية فى هذا الشأن بما يعظم الاستفادة من الفرص التى تتيحها المبادرة ، وعدم الاكتفاء بالتعامل مع ما يتم عرضه علينا. طرحت مناقشات الندوة اكثر من اولوية منها: محور اقليم قناة السويس الذى يتضمن اقامة المناطق الصناعية واللوجستية، والمعبر المائى الذى ييسر وصول المنتجات الصينية الى اوروبا، ومنها ان تكون مصر بوابة الصين التجارية الى افريقيا والمساهمة فى تطوير شبكات الطرق البرية والحديدية الرئيسية فى القارة، ومن ابرزها طريق القاهرة - الكيب تاون. ومنها اولوية السياحة الصينية فى ضوء ازدياد عدد السياح الصينيين فى العالم عاما بعد عام، والذين وصل عددهم الى 400 ألف سائح فى مصر فى العام الماضى. وبالطبع فإن كل اولوية لها تباعاتها ومتطلباتها التى علينا ان نتحملها، ابرزها بالتأكيد التنسيق بين جميع الاجهزة الحكومية وغير الحكومية كالبنوك والغرف التجارية والصناعية وجمعيات المستثمرين لتحديد الاولويات وان يتم هذا التنسيق بشكل مؤسسى ومستمر. و تيسير الاجراءات المرتبطة بالاستثمار وإتاحة الخدمات بمستوى متميز وتنافسى، والارتقاء بنظم التدريب وبناء المهارات، ونشر تعليم اللغة الصينية لتخريج الاعداد اللازمة من المترجمين والمرشدين السياحيين، وتعريف الرأى العام بالقواسم الحضارية والثقافية المشتركة بين مصر والصين، ودعم الهيئات البحثية المصرية المهتمة بالصين وتوثيق العلاقات بينها ونظائرها فى الصين. والخلاصة ان مبادرة الحزام و الطريق هى فرصة استراتيجية كبرى لمصر وعلى مختلف الاجهزة الحكومية وغير الحكومية ان تسعى لتحقيق اكبر استفادة منها. لمزيد من مقالات د. على الدين هلال