كان اعلان الاتحاد السوفيتى السابق استعداده لتقديم المساعدة الكاملة لمصر فى بناء سد اسوان العالى بمثابة نقطة التحول الرئيسية وبداية تغيير تاريخى فى هيكل العلاقات الاقتصادية الخارجية لمصر، وفى توفير قوة الدفع للتوجه نحو خيار استراتيجية التنمية المستقلة. وتلخص تجربة مصر الناصرية فى التصنيع المستقل، أهم المنجزات والاخفاقات التى واجهت أهم محاولة للتنمية المستقلة عربيا، وواحدة من أهم تلك التجارب على الصعيد العالمى. وأسجل، أولا، أن تجربة مصر الناصرية للتنمية المستقلة ارتكزت، من حيث التوجه الخارجى، الى انهاء سيطرة رأس المال الأجنبى، واستراتيجية التصنيع لاحلال الواردات، وتقليص الارتباط بالسوق الرأسمالى العالمى، وتوسيع الروابط الاقتصادية مع الدول الاشتراكية. وأما من حيث التوجه الداخلى، فقد ارتكزت الى الادارة المركزية البيروقراطية ذات التوجه الاشتراكى للاقتصاد، واضعاف مراكز سيطرة رأس المال الخاص الوطنى فى الاقتصاد القومى عبر التأميم والحراسة، وتحقيق سيطرة قطاع الأعمال العام، الى جانب السياسة الاقتصادية للدولة وبرامج الاستثمار القومى الواسعة خاصة فى الصناعة التحويلية. وقد توافرت شروط أكثر مواتاة للتصنيع بقيادة القطاع العام نتيجة سيطرة الدولة على النشاط المصرفى والتجارة الخارجية والنقد الأجنبى، وصياغة الدولة لسياسات الاسعار والائتمان، بجانب سياسات التجميع والتسويق والائتمان التعاونى فى الزراعة. وشهدت ادارة الاقتصاد ارتقاء أشكال التخطيط الاقتصادى الحكومى من مجرد دراسة جدوى المشروعات (المجلس الدائم للانتاج القومي)، الى صياغة برامج للاستثمار الصناعى (برامج السنوات الخمس للصناعة)، ثم الى وضع خطط التنمية الاقتصادية (الخطة الخمسية الأولي).. الخ. ثانيا، أن تحقيق السيطرة الوطنية على المراكز الرئيسية للاقتصاد، واقامة علاقات اقتصادية خارجية مواتية لدفع التصنيع، وتوفير الشروط المواتية للدور القيادى للقطاع العام فى التصنيع، واعادة صياغة مجمل السياسة الاقتصادية، وغير ذلك من ركائز التصنيع المستقل قد استجاب بدرجات متزايدة لمتطلبات التصنيع.، وسمح اقتصاد التخطيط المركزى، بتحسين شروط تقديم الائتمان واستيراد المستلزمات وتوفير النقد الاجنبى والامداد بالخامات الزراعية... الخ، لمصلحة القطاع العام، الذى قاد عملية التصنيع فى مرحلة صعوده قبل ان تدخل استراتيجية احلال الواردات مأزق تطورها اللاحق فى مصر، كما فى غيرها من البلدان النامية التى عجزت عن التحول فى الوقت المناسب الى التصنيع التصديرى القادر على المنافسة. ثالثا، أن عمليات تأميم وتمصير المؤسسات الاجنبية خاصة فى مجالات المال والصناعة والتجارة الخارجية، لم يكن لها أن تعنى فى ذاتها انجاز الاستقلال الاقتصادى باعتباره عملية تاريخية طويلة لتغيير البنية الصناعية والاقتصادية، المتخلفة والتابعة الموروثة، من جانب، وبافتراض رشادة وامكانية تحقيق ذلك الهدف فى السوق المصرى الضيق، من جانب آخر. لكن عملية انهاء سيطرة رأس المال الأجنبى مثلت مقدمة ضرورية لتعبئة الموارد الوطنية اللازمة للتصنيع والتنمية، ومكنت من صياغة السياسة الاقتصادية بما استجاب لضرورات التسريع بعملية التصنيع خاصة عبر تنويع العلاقات الاقتصادية الخارجية واضعاف مشروطية توريد الآلات والمعدات والتكنولوجيا الأحدث. وهكذا، أمكن ليس فقط تلقى المساعدة من الاتحاد السوفيتى وغيره من البلدان الاشتراكية فى بناء مؤسسات التصنيع الثقيل. رابعا، أنه فى اطار القطاع العام الصناعى وفى المراكز الصناعية القديمة والجديدة تزايد عدد العمال الصناعيين، وتعاظم تركز رأس المال والانتاج وقوة العمل، واتسع استخدام الاساليب التكنولوجية الحديثة فى الانتاج، وارتفعت انتاجية العمل فى المؤسسات الصناعية الكبيرة.. كما تأسست صناعة انتاج الحديد والصلب لأول مرة باستخدام الخامات الأولية المحلية بدلا من اعادة تصنيع الخردة، وتم تصنيع العديد من المنتجات الجديدة على أساس الاستخدام الاكثر رشادة للخامات المحلية، وتنامى التخصص وتقسيم العمل داخل الصناعة والاقتصاد، وتوسعت السوق الداخلية. وفى عام 1970/1971، قدمت الصناعات الثقيلة 45% من القيمة المضافة الاجمالية للصناعة التحويلية؛ ويشير بشكل غير مباشر الى أسبقية تطورها تراجع نصيب فروع الصناعات الاستهلاكية (الغذائية والغزل والنسيج) فى القيمة الاجمالية المضافة الصناعة التحويلية. وفى ذات العام بلغ نصيب مؤسسات القطاع العام من العمالة والانتاج فى المؤسسات الصناعية التى يعمل بها عشرة عمال فأكثر 80-90% فى الصناعات الثقيلة، و90-100% فى صناعات الاستخراج والتعدين والحديد والصلب ومعدات النقل والصناعات الهندسية والاليكترونية والصناعات الكيماوية والصناعات البتروكيماوية وتكرير النفط وانتاجه بجانب الطاقة الكهربائية. خامسا، أن ما تحقق من انجازات فى مجال توسع وتطور الصناعة التحويلية والاستخراجية كان من حيث الاساس ثمرة لبرامج وخطط الاستثمار الطموحة الواسعة التى نفذها القطاع العام، الذى نفذ أهم المشروعات الجديدة فى الفروع الاساسية للصناعة. واذا كان ما سبق يعكس واقع التقدم على طريق التصنيع بالمعنى الضيق؛ أى تطوير الصناعة التحويلية، فان انجازات مهمة تحققت ايضا من منظور التصنيع بالمعنى الواسع؛ أى تطور قطاعات الاقتصاد الأخرى. فقد تمت ازاحة واحدة من أهم العقبات امام تطور الصناعة بمضاعفة انتاج الكهرباء، حيث زاد استهلاك الصناعة للكهرباء بين عام 1952 وعام 1971/1972 بأكثر من 8 مرات، وبلغ نصيب الصناعة 63% من استهلاك الكهرباء المنتجة فى العام الأخير. وقد أنتجت محطة كهرباء السد العالى 53% من كل الطاقة الكهربائية المنتجة فى مصر فى عام 1974. وفى بداية السبعينيات، كان قد تم مد خطوط نقل الكهرباء ذات الضغط العالى 500 كيلووات تساوى 100 % من الخطوط الموجودة آنذاك، لتشغل مصر بذلك المركز الثالث فى العالى بعد الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدةالامريكية فى استخدام مثل هذه الخطوط. لكن المشكلات الداخلية والخارجية، الاقتصادية وغير الاقتصادية، التى عرقلت مشروع التصنيع المستقل، تفاقمت منذ منتصف الستينيات؛ سواء بسبب عدم واقعية وعدم رشادة وعدم عملية المشروع ذاته، أو بسبب تعاظم قيود اقتصاد الأوامر وخاصة من زاوية متطلبات تعظيم الكفاءة. وكان العدوان الاسرائيلى فى عام 1967 سببا رئيسيا فى تفاقم مشكلات التصنيع وخاصة تمويله، حيث استهدف ضمن ما استهدف وأد محاولة التصنيع المستقل. لمزيد من مقالات د. طه عبدالعليم