قضى ترتيب جدول محاضرات السنة الأولى لقسم اللغة الانجليزية، بكلية الألسن، عام 1978، أن تكون المحاضرة الأولي، والتمهيدية التى يتعرف بها الطلبة الجدد على الجامعة والحياة الجامعية، بكل ما تحمله من انتقاليات فى مرحلة العمر، وفى التفكير، واستشراف لآفاق المستقبل، أن تكون المحاضرة للدكتور رمسيس عوض، أستاذ مادة الرواية. وبلا أى مقدمات مما سبق، انطلق المحاضر بالانجليزية، يتحدث عن توماس هاردي، الروائى الرومانسى الريفى الفيلسوف، صاحب تس..سليلة دربرفيل، وعمدة كاستربريدج، وغيرهما، وكيف كان هذا الروائى العظيم، عميق الايمان بالأقدار، وسخريتها، وأن مصائر أبطال رواياته معلقة بأحبال الأقدار. وأن توماس هاردى جمع فى إيمانه القدري، بين أقدار الدراما الإغريقية التى جعلت مصائر الأبطال المأساويين مسئولية الأقدار والظروف الخارجة عن إرادتهم، وبين أقدار أبطال التراجيديا الشكسبيرية، حيث المأساة من صنع قدر الشخصية، ونوازع الشر أو حتى الخير بداخلها. انتهت المحاضرة، وانهارت عند كثيرين، بل الأغلبية، تطلعات اليوم الجامعى الأول، وسمعنا برغبات محمومة فى النقل لدراسة التجارة أو التربية، أو الآداب، ظنا أن هذه المحاضرة العميقة الثقيلة التى أخذتنا على حين غرة، هى عنوان الدراسة هنا فى الألسن. لكن الأيام والسنين أثبتت أنها، بالأحري، عنوان على شخصية د. رمسيس عوض، الذى رحل عن الدنيا هذه الأيام، تاركا وراءه إرثا فكريا وثقافيا مهما، والأهم، إرثا طلابيا تأثروا به، وتعلموا منه، الدأب الأكاديمى الصارم، وجدية البحث فى الفكرة الجديدة غير المتداولة. مع أول احتكاك حقيقى بين الأستاذ وطلابه، طلب منا ورقة بحثية، ظنناه سيخسف بها وبمستقبلنا الأرض، ودعانا للتعرف علينا فى مكتبه من خلال ورقة البحث، فإذا به من أشد الأساتذة رأفة بطلابه فى الدرجات، بعدما تيقن من أنه أجهدهم بأكثر من الكفاية، فى اللهاث وراء أفكاره والبحث من أجل الفهم والمعرفة. تعرفنا منه على معركته الفكرية الأهم لحياته فى ذلك الوقت، وكانت مع الأديب المسرحى الكبير توفيق الحكيم. وحرصنا على اقتناء كتابه، توفيق الحكيم الذى لانعرفه. واستغربت اهتمامه بنشر صورة بخط يد الحكيم تعلق على الكتاب بأنه لا يرقى الى مستوى البحث والدراسة النقدية الجادة، الى أن علمنا بأنه استلها من يد الحكيم لأنه عرض عليه الكتاب ليبدى رأيه فيه قبل النشر. رأيته جالسا بين د. صلاح فضل، ود. عبد القادر القط، فى ضيافة أمسية فاروق شوشة الثقافية، وجميعا يناقشونه فى واحدة من أهم الانتاجات الثقافية التى يشرك فيها استاذ طلابا له فى البحث، وهى موسوعة المسرح المصري. شعرت بالفخر، وفى الوقت نفسه رأيت الجانب الخفى من شخصيته، أنه كان شديد الخجل، فى مواجهة الاعلام والناس. كان لا يحرص كثيرا على ذكر شيء عن أخيه د.لويس عوض، الذى كشف فى مذكراته عن خلافاتهما الشخصية، وان كنت لا أحسب أنهما اختلفا فكريا، الا بقدر ما كان لويس عوض أكثر غزارة فى الاهتمام بالتراث الاسلامى والأدب العربي، وخوض معاركه من داخلهما كمعركته مثلا مع د.بنت الشاطئ والأستاذ محمود محمد شاكر، أما رمسيس فكان موجها بحثه بصفة أكبر الى الدراسات فى الآداب الغربية، وأعلن أن أخاه لويس ربما شعر بأن رمسيس كان يباهى بإعلان التأثر بفكر برتراند راسل، ولم يعلنها تجاه لويس عوض. كان يحب التردد على لندن، وهناك تعرفت عليه بصورة أقرب، وتأكدت أنه رجل لا يشغله إلا البحث فى الفكرة غير المتداولة والعمل بشكل أكاديمى له أصوله ومنهجه على ادخالها فى ثقافتنا. ولعل هذه كانت فلسفته الخاصة فى مفهوم الترجمة، أنه ليس بمتجرم، ولكن ينسج ما يطلع عليه من ثقافة الغرب ويراه من منظور كيفية التأثير فى ثقافتنا. له مثلا كتاب: شكسبير فى مصر، عن الترجمة والتمصير لأعمال الشاعر الدرامى الانجليزى العظيم. وكان يحب من النقد أن يلقى بإسقاطات تفيد الحركة النقدية والأدبية فى بلادنا، فكتب سلسلة الرقابة وحرية التعبير فى كل من بريطانيا وروسيا وأيرلندا، كما تناول الشخصية اليهودية فى الأدب الروسي. واذا كان رمسيس عوض عاش مايزيد على 90 عاما، تلفه دوما مسحة حزن، ربما لشعور دفين بعدم الرضا أنه لم ينل حقه، ومردودا لما كان يسعى اليه من الارتقاء بالثقافة، فانه عاش فى الوقت نفسه مقاتلا شرسا فى المعارك الفكرية، وكنا نختلف معه كثيرا كطلبة حول كثير من أفكاره، لكن العجيب أنه كان معنا ذا صدر رحب ويتقبل الاختلاف، بقدر ما كان يصارع بضيق وحزن على جبهات الفكر والنقد مع كبار الكتاب والمثقفين. لمزيد من مقالات ◀ خليل على فهمى