علي امتداد الازدهار الثقافي, الذي شهدته السنوات الأولي من ستينيات القرن الماضي( العشرين)- أي حتي غادرت مصر عام1965- كان لويس عوض هو المعلم الأول, وصاحب الرؤية الثقافية التي كان هذا الازدهار يبشر بها. كان موقع لويس عوض في صحيفة الأهرام قد كفل له مكانة الناقد الرئيسي.. وهكذا أصبح العدد الأسبوعي- الذي يكتب فيه لويس عوض ب الأهرام- عددا ينتظره الناس, ليروا ما نجح وما لم ينجح من النصوص المسرحية, أو دواوين الشعر, أو الروايات. .................................................................. هذا ما كتبه الدكتور محمد عناني في مقدمة كتاب لويس عوض مفكرا, من تأليف الدكتور محسن عبد الخالق, الصادر العام الماضي عن المجلس الأعلي للثقافة. والكتاب هو الرسالة القيمة التي تقدم بها الدكتور عبد الخالق لنيل درجة الدكتوراه من أكاديمية الفنون بالقاهرة, ونالها. وفي هذا المقال نقدم- في عجالة- بعضا مما تضمنه هذا الكتاب, الذي يقع في444 صفحة من القطع الكبير, وينقسم إلي ستة فصول. مفكر الثورة المصرية .. ويتابع الدكتور عناني حديثه عن عوض قائلا: إن لويس عوض في هذه السنوات تحول من باحث أو ناقد أدبي إلي ما يمكننا أن نعتبره مفكرا محوريا للثورة المصرية( ثوره23 يوليو). وكان عوض في غضون التقلبات السياسية والثقافية التي شهدتها تلك الفترة يشبه شاعره الإنجليزي المفضل شيلي في استمساكه بحلم السعادة التي تكفلها الحرية للإنسان. وكان جوهر الحرية في نظره يكمن في العلم بأوسع معانيه. ثم يقرر عناني أن لويس عوض كان مفكرا مصريا صميما يعتز بجذوره في صعيد مصر, وبانتمائه إلي مصر القديمة والحديثة معا. ولم يتخل عوض عن أي من أحلامه, وظل علي إيمانه الشديد بالليبرالية; فكريا وسياسيا, ويحلم بما نسميه اليوم العدالة الإجتماعية, وبالتعددية. وقد خاض لويس عوض معارك فكرية, وكافح كفاح الأبطال في سبيل مهمته التنويرية, ويدين له جيلنا( جيل محمد عناني) بالربط بين الحياة الجامعية والحياة العامة. فإذا انتقلنا إلي المقدمة التي كتبها مؤلف الكتاب, الدكتور محسن عبد الخالق, فسنجده يقول إن لويس عوض ساهم في تأسيس الحركة النقدية العربية المعاصرة, ولم يكن بالشاهد العادي علي عصره, بل أثري المكتبة العربية بتسعة وأربعين كتابا. ويحتل عوض مكانة بارزة بين كتاب المقال; سواء الصحفي أو الأكاديمي, ونقل لنا روائع الأدب العالمي عبر تلك المقالات, وأقام جسرا بين الثقافتين العربية والعالمية. كتاب.. وستة فصول ويتألف الكتاب الذي بين أيدينا من ستة فصول, خصص المؤلف الفصل الأول منها لعرض المؤثرات التي أثرت في منهج لويس عوض, ومنها مثالية العقاد, وعقلانية طه حسين, ومادية سلامة موسي. وهكذا كان عوض استمرارا واعيا لمسيرة هؤلاء المفكرين الثلاثة الكبار. ثم يأتي الفصل الثاني بعنوان نقد الشعر العربي, ليتناول رؤية لويس عوض للشعر العربي, وهي الرؤية التي أثارت ضده الكثيرين, وأدخلته في معارك جمة. وفي الفصل الثالث, بعنوان نقد الرواية, نقرأ استعراضا لنقد لويس عوض بعض الأعمال الروائية الصادرة في أيامه. وفي الفصل الرابع, وتحت عنوان نقد المسرح, يقدم المؤلف كتابات عوض في نقده عددا من المسرحيات. ويتضمن هذا الفصل دراسة مهمة جدا كتبها عوض عن المسرح المصري القديم. وهنا يري عوض أن المسرح المصري نشأ في أحضان الدين أولا, وترعرع في أحضان الدين ثانيا, وشاخ في أحضان الدين ثانيا, ثم مات في أحضان الدين أخيرا. ثم في الفصل الخامس- الذي جاء بعنوان نقد الحضارة والثقافة القومية- يتناول المؤلف كيف عرض لويس عوض الحصاد الثقافي في مصر منذ معاهدة1936 وحتي قيام ثورة يوليو.. وهنا سنري كيف رفض المؤلف ما ذهب إليه عوض في هذا السياق.. وهو ما سنقرأه هنا بعد قليل. وفي الفصل الأخير من الكتاب- الذي حمل عنوان لويس عوض مبدعا- سنقرأ نقدا قدمه المؤلف لكل أعمال لويس عوض الإبداعية, ومدي التطابق( أو عدم التطابق) بين ما كان يطالب به كناقد وما أبدعه هو بنفسه. لا يا عزيزي.. الشعر لم يمت! يأخذنا كتاب الدكتور عبد الخالق- في فصله الثاني- إلي مقدمة ديوان لويس عوض بلوتولاند.. وقصائد أخري من شعر الخاصة الذي أصدره عوض عام1947. لقد أعلن عوض في تلك المقدمة- بجرأة يحسد عليها- أن الشعر العربي القديم قد مات في عام1932 مع موت أحمد شوقي. قال عوض: الشعر العربي مات ميتة الأبد.. فهيا حطوا عمود الشعر! .. وطبعا.. ما كان النقاد الكبار في زمن لويس عوض أن يسمعوا تلك الصرخة الخطيرة ويصمتوا.. بل انبري كبارهم للرد عليه, فنجد الأستاذ العقاد يقول: ما عهدنا في التاريخ القديم أو الحديث أن الأمم تبني أركان ثقافتها عشرات القرون ثم تهدمها آخر الأمر بهذه السهولة بغير حجج معقولة. ورد الدكتور زكي نجيب محمود قائلا: نعم.. في الشعر جديد.. لكن ليس في الشعر تجديد, فمن ذا يزعم أن ظهور المتنبي- مثلا- في دولة الشعر قد استلزم أن يزول امرؤ القيس؟ وهل استطاع شكسبير أن ينقص شيئا من مكانة تشوسر؟. ومن جانبه كتب صلاح عبد الصبور: نحن نؤثر في المعري والمتنبي بقدر ما يؤثران هما فينا. وقال الدكتور شوقي ضيف: إن تراثنا الشعري جزء من تراثنا القومي; جزء ينبض بالحياة. إن الشعر لا يموت ولا يهرم. وهكذا كانت المعركة التي فجرها لويس عوض آنذاك جزءا من جدل هائل, مازالت آثاره مشتعلة حتي الآن.. ومازال السؤال نفسه يتردد حتي اليوم: هل مات الشعر عندنا حقا؟ ليس الفتح كالغزو يا أستاذ! وبعد ذلك نذهب مع مؤلف الكتاب إلي معركة أخري خاضها لويس عوض في ديوانه نفسه بلوتولاند. لقد ساوي عوض في مقدمة الديوان بين الفتح الإسلامي لمصر عام640 م والغزو الإنجليزي لمصر عام1882 إذ اعتبر كليهما فتحا! وهنا يقول عوض: عندي.. أن كل ما قدم المستعربون من قريض بين الفتح العربي ومحمود سامي البارودي, وعجز المصريين عن قول الشعر العربي( في الفترة الواقعة بين الفتحين) دلالة علي شيء واحد, هو أن المصريين لم يتمثلوا اللغة القرشية كما يتمثل الكائن العضوي غذاءه, بل اصطنعوا لأنفسهم لغة خاصة بهم. ثم يستطرد عوض فيقول: إن قول القائل: رمش عين الحبيبة يفرش علي فدان يعدل عندي كل ما قدمه المستعربون من قريض بين الفتح العربي والفتح الإنجليزي!. وبطبيعة الحال, وكما هي العادة مع أفكار لويس عوض الجريئة, انبري الكثيرون للرد علي هذا التشبيه بين المسلمين الفاتحين والإنجليز الغزاة. ويقول مؤلف الكتاب: نعتقد أن تسوية لويس عوض بين الفتح العربي والغزو الإنجليزي خطأ علمي واضح, فالتسمية غير دقيقة وخاطئة.. إذ كيف لشاب عمره لا يتجاوز23 سنة( يقصد لويس عوض يوم أن أصدر الديوان) أن يصدر حكما بهذا الشمول والاتساع علي13 قرنا من الشعر العربي كأنه لم يكن.. ونحن نعلم أن عوض متخصص في الأدب الإنجليزي, وبالتالي فهو يصدر حكما هو غير مؤهل له؟ ويطلق المؤلف- الدكتور محسن عبد الخالق- تصريحا, ربما كان صحيحا وربما لا, حيث قال: إن أثر ديوان لويس عوض بلوتولاند كان أثرا محدودا, لأن الديوان كان صدي للشعر الغربي أكثر من كونه امتدادا لتراث الشعر العربي. عوض بين الفصحي والعامية ويناقش الكتاب مسألة أن المصريين- كما يراهم عوض- عجزوا عن قول الشعر العربي, ومن ثم اصطنعوا لأنفسهم لغة خاصة بهم( رمش عين الحبيبة يفرش علي فدان) يقصد بذلك اللغة العامية المصرية. وهنا يعود المؤلف إلي رد الناقد الراحل رجاء النقاش علي لويس عوض. قال رجاء: هذا القول يا دكتور لويس غير صحيح ولا يستند علي أي سند علمي.. والدليل أنك أنت نفسك- يا أستاذ لويس- حاولت الكتابة بالعامية المصرية, لكنك انصرفت عنها سريعا إلي العربية الفصحي, وليس بين كتبك العشرين( كان عدد الكتب20 عندما كتب رجاء هذا النقد) سوي كتابين فقط بالعامية بينما الباقي كله بالعربية.. والسبب هو أن العربية أدق من العامية, كما أن العامية المصرية نفسها قريبة جدا من الفصحي العربية.( وهنا يصحح المؤلف المعلومة التي ساقها النقاش فيقول إن لويس عوض لم يصدر إلا كتابا واحدا بالعامية.. وليس كتابين). ويحطم رجاء النقاش حجة لويس عوض التي ساقها فيقول: إنه حتي في القول رمش عين الحبيبة يفرش علي فدان, فإنه قول فصحي وليس عامية, إذ كل الكلمات عربية وليس هناك اختلاف إلا في تسكين الحروف, والنطق بغير تشكيل! فراغ بين ازدهارين كبيرين! ثم يصحبنا المؤلف في الفصل الخامس, والذي جاء بعنوان نقد الحضارة والثقافة القومية, إلي معركة أخري من المعارك التي خاضها لويس عوض. لقد قسم لويس عوض حياة مصر الثقافية المعاصرة إلي قسمين أساسيين; القسم الأول يبدأ بتوقيع معاهدة1936 وحتي ثورة يوليو.. والقسم الثاني يبدأ ببزوغ فجر23 يوليو. وذهب عوض- في مقال له بالأهرام في1965/7/23- إلي أن حالة الأدب في مصر منذ1936 تميزت بوجود تأزم شديد, بلغ الذروة في كثير من فنون الأدب بين ما يمكن أن نسميه الأدب الرسمي والاتجاهات الجديدة في الخلق الأدبي, بحيث انعدم التفاهم بينهما.. وهكذا- وحسب رأي عوض- كانت السنوات الست عشرة قبل ثورة يوليو فراغا رهيبا التهم حياتنا الأدبية والفنية في فترة الحرب العالمية الثانية وما بعدها من سنوات حتي قيام الثورة! .. ثم يغامر لويس عوض بالقول: إن هذا الفراغ- من الناحية التاريخية- يمثل الهوة التي سقط فيها الأدب العربي في مصر.. لا أقول بين مدرستين, أو بين اتجاهين, لكن بين ازدهارين كبيرين هما الازدهار الأدبي الفني القديم الذي صاحب ثورة1919 والازدهار الأدبي والفني الجديد الذي جاء بمجيء ثورة يوليو. وفي النهاية يخلص عوض إلي أنه كان هناك- في الفترة بين36 و52 قديم لا يريد أن يموت, وجديد لا يستطيع أن يولد! وكالعادة تصدي له الكثيرون رافضين تلك الرؤية. وكانت من بينهم بنت الشاطيء الدكتورة عائشة عبد الرحمن. تقول بنت الشاطيء- في كتابها قيم جديدة للأدب العربي القديم والمعاصر الصادر عام1966 إن المرحلة التي بدت لبعضنا( تقصد لويس عوض) مرحلة فراغ رهيب, كانت فيما أري من أخصب المراحل في تاريخنا الحديث تعبئة للثورة, ولم يشذ الأدب عن ذلك. .. وتستطرد بنت الشاطيء- ردا علي ما قاله عوض بأن كلا من المنفلوطي وطه حسين والعقاد ومحمد حسين هيكل والمازني وسلامة موسي كانوا قد أتموا رسالتهم الأدبية الأساسية قبل1936 فتقول إنه في الوقت الذي كان فيه الثلاثة; محمد مندور ونجيب محفوظ ولويس عوض, يقلبون التربة انتظارا لشيء يحدث, كان توفيق الحكيم يوقظ النيام من أهل الكهف, ويسجل يومياته في الأرياف, ويرهص بعودة الروح.. وكان طه حسين يرهص بثورة الثقافة الجديدة وحق المواطنين في التعليم كحقهم في الماء والهواء, وينشر شجرة البؤس وجنة الحيوان والمعذبون في الأرض.. كما كان أستاذنا أمين الخولي يعبيء عقولنا وضمائرنا بشحنة ثورية تسري متوهجة متأججة. وتضيف:.. وكان السندباد المصري الدكتور حسين فوزي يرتاد بنا آفاقا مجهولة عن( المزيكا).. وبيرم التونسي يملأ الميدان ويغزو الوجدان الشعبي بأزجاله وأغانيه ومواويله.. كما كان يوسف السباعي يكتب السقا مات وأرض النفاق.. وعبد الحليم عبدالله يبدع اللقيطة وبعد الغروب.. بينما كان مسرحا الريحاني ورمسيس يعرضان علينا المضحك المبكي من مهازل الأوضاع ومآسي الطبقية.. كما كان محمد خالد يكتب من هنا نبدأ. .. وهكذا كان الراحل الدكتور لويس عوض يثير المعارك الفكرية أينما حل وارتحل.. وأثار( كما يقول مؤلف الكتاب) جدلا واهتماما حول بعض القضايا الثقافية, وشغل دوائر المثقفين بآراء كان لها أحيانا مذاق العلقم.. وكتابات غالبا ما كان لها ملمس الشوك.